قد يكون الأمر الذي نحتاج إليه اليوم أكثر من غيره هو الإخلاص بالعمل, والبعد عن الكلام وتضخيم الذات, وخاصة فيما يتعلق بالأدب والكتابة، فأكثر مايُسَمِّم الفكر, ويؤدي إلى التشويش هو التظاهر الذي نلمسه عند بعض المثقفين, ورفض كل شيء في ماضينا وحاضرنا, متأثرين بجرثومة التعصب للغرب التي تجري في دمهم كالكريات, , وقد بادرني أحد هؤلاء بقوله: ليس عندنا أديب أو شاعر يستحق هذا الاسم, وأكبر واحد بينهم لايرقى إلى مستوى أصغر أديب غربي.
قلت له : ( أبو تمام) قال شاعر صنعة, وقد أفرط في استخدام تلك الصنعة حتى بلغ حد الإحالة, فقلت: ( المتنبي) قال: وصولي تضرع إلى الحكام وأولي الأمر ليصل إلى هدفه في الحكم, فقلت (طه حسين) قال: لم يكن شيئاً لو لم يـأخذ منهج (ديكارت) في الشك, ويطبقه على دراسة الأدب العربي, والفضل في العاصفة التي أثارها حوله يعود إلى هذا المنهج , فقلت: (عباس العقاد) قال:
مايذكر عن سعة ثقافته , وحدة ذكائه, أمر مبالغ فيه, ولايمكن أن يتوافر لإنسان مايذاع عنه, فقلت : فلان وفلان وعلان, قال: ليسوا شيئاً , ولم يقدموا شيئاً ، فقلت: وأنت ماالذي قدمت؟ قال : أنـ أنـ أنا لم أقدم شيئاً، فقلت : أنت تساوي نفسك إذاً بمن رفد المكتبة العربية بالمؤلفات وأغناها بها ؟!!
ويبدو أنك ياعزيزي مصاب بجرثومة التعصب للغرب وثقافته, قال : لست متعصباً ، بل هذه حقيقة ولاشيء غير الحقيقة يستهويني في الحياة, هل أنت ضد الاطلاع على ماينشر في الدول المتقدمة والإفادة من ذلك؟ قلت : لا ففتح النوافذ والأبواب على مصاريعها أمام كل جديد, أمر مفيد بل واجب علينا وضروري لنا، ولكن الاعتزاز بكبار أدبائنا ومفكرينا والمشرق من تراثنا, مفيد وواجب علينا وضروري لنا أيضاً, وكنت ذكرت منذ قليل (ديكارت) فما رأيكَ به؟
قال : فيلسوف عظيم وله الفضل في إرساء منهج علمي قام على أساسه صرح الحضارة الغربية وأنقذها من التخبط الذي عانت منه طويلاً.
فقلت: هذا حسن ولكن يبدو أنك لم تقرأة قوله (إن الذين ينصِّبون أنفسهم لإسداء النصائح, يلزمهم أن يكونوا أحذق ممن يسدونها إليهم)، ولست أراك ـ ياعزيزي ـ أهلاً للغَضِّ من شأن أولئك الأعلام العرب, فلكل منهم في المكتبة العربية من المؤلفات مايشهد له بالفضل ويكفيه مؤونة الدفاع, وأنت لم تقدم شيئاً فكيف تجعل نفسك حَكَماً على من هم أفضل منك ؟!! والمثل يقول: (أن تشعلوا شمعة خير ألف مرة من أن تلعنوا الظلام).
فلنعمل بصمت إذاً, ولتكن أفعالنا أكبر من أقوالنا, وحين نفعل ذلك, يكون لنا مانريد, ويكون الوطن أفضل, متعافياً مما أصابه من أثر المحنة المؤلمة التي عصفت به منذ سنوات, متغلباً على المؤامرة الكونية الكبرى التي حِيكتْ له, منتصراً ناهضاً أقوى مما كان, كطائر الفينيق الذي ينهض من تحت الرماد, محلقاً بجناحيه القويين في أعالي السماء.
د . موفق السراج