أنا أخاف … إذاً أنا موجود !

بعد الزنقة المالية التي ألمّت بنا ، وأطبقت قبضتيها المحكمتين حول أعناقنا جميعاً ، بغضّ النظر عن المهنة التي نمارسها ، أو العمل الذي نتصيّد من ورائه لقمة العيش ، بعد هذه الأزمة المعيشية الخانقة التي تركت الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن الحمل ثقيل،ومتطلبات الحياة أعقد من أن تحل … كان لا بد من أن نحسب حساباً لكل من يزيد همومنا هماً ، ولكل من يسهم في زيادة أية نفقة من نفقاتنا اليومية ، فالغلاء الكاوي يلسع ظهورنا كل يوم ، بسياطه الحارقة التي نَدَرَ أن يشفي آثارها طبيب .
-من هنا نشأت لدينا عقدة الخوف من كل محاسب أو موظف أو قائم بأعمال لها علاقة ما بالضرائب ، أو الخدمات المالية، أو المخالفات النقدية ،أو العقوبات التي لا تحل إلا بالدفع القسري … أي نشأ في نفوسنا ما يسمى باللغة الطبية بـ ( الرهاب ) ، والرهاب مرض نفسي ، يطلق على الخوف غير المبرر ، إما من شيء معلوم، أو من شيء مجهول ، وله عدة أنواع منها : رهاب الخلاء، وهو الخوف من الأماكن الواسعة ، أو رهاب أطباء الأسنان وصوت أجهزتهم وصرير أدواتهم ، أو رهاب منظر الدماء وسفحها خارج الجسم ، أو رهاب الأماكن المرتفعة والسقوط من عل ٍ، أو رهاب المناطق الضيقة التي تقطع الأنفاس ، أو رهاب الحشرات والأفاعي والخشية من لدغاتها ، أو الرهابات النوبية التي تتمثل بشكل نوب هلع أو قلق شديد غير مسوّغ ، أو الرهاب الاجتماعي وهو حالة من الخوف من التعامل مع الناس والخوف من التصرف معهم تصرفاً خاطئاً أو غير لائق!.
إذاً نستطيع أن نضيف إلى هذه الأنواع من ( الرهابات) نوعاً جديداً يسمى الرهاب المالي ، أو الرهاب الناشئ عن الفزع من دفع أي مبلغ مالي جديد يزيد الأمور تعقيداً ، وهو يتمثل في الخوف من كل إنسان قد يقوم بهذه المهمة بحكم عمله الوظيفي أو المهني .
-أصبح المستهلك يخاف من ( مراقب) عدّادات الماء أو الكهرباء ، من أن يغير رقماً يزيد من كمية الاستهلاك ، أو يتغاضى عن رؤية العدّاد فترة طويلة من الزمن ، ثم يجمع الأرقام مرة واحدة ، فيزيد من الضريبة التصاعدية التي تلحق عادة بالاستهلاك الزائد عن الحد الطبيعي !!.
أصبح الموظف يخاف من مراقب الدوام ، الذي يلاحقه ( على الدعسة ) ، فيحاسبه على تأخير لدقائق معدودة ناشئ عن أزمة المواصلات ، أو ملاحقة القضايا المعيشية ،أو الوقوف في طابور شراء الخبز ، ويكون سبباً في خصم يوم كامل من راتبه الذي لا يكفيه في الأصل !!.
أصبح الراكب يخاف من سائق سيارة الأجرة ، الذي لا يلقي إلى العدّاد بالاً، والذي يطالبه بمبلغ مالي غير معقول ، بعد وصوله إلى الموقع الذي يقصده ، بحجة أن العدّاد لم يعدّل بعد ، أو بحجة أن سعر البنزين لم يعد يلائم مثل هذه ( المشاوير ) ، أو بحجة غلاء المعيشة الذي يكوي الراكب والسائق معاً .
أصبح المواطن يخاف من الذين يسجلون مكالماته الهاتفية ، هل هم دقيقون في تسجيلها ؟. أم يتجاوزون المبلغ المترتب عليه ؟؟. أم أن أرقام هواتف أخرى تتداخل مع رقمه الحقيقي نتيجة خطأ فني أو حسابي ؟؟؟. وهنا الطامة الكبرى، فالأرقام الدخيلة قد تحمل مكالمات زائدة ، أو مكالمات دولية ، وهذه بالطبع سيكون لها أثرها السلبي ، ونتائجها غير المحمودة ، ودفعها القسري الذي لابد منه !.
أصبح المهني يخاف من جباة المالية ، الذين يلاحقونه كي يدفع المبالغ المترتبة عليه ، يخاف أن يُتّهم بأنه متهرّب من الدفع الضريبي ، أو مقصّر في أداء ما عليه ضمن الفترة المتاحة له ، أو أن يُطالب بتسديد ضرائب جديدة لم يكن على علم بها من قبل ، ولكن العباقرة الماليّون ( وما أكثرهم) تفتقوا بها بعد تفكير طويل ودراسة أخذت من وقتهم الكثير .
أصبح سائق أية مركبة خاصة أو عامة ، يخاف من رؤية شرطي السير ، الذي وُضع أصلاً لخدمة المواطنين وتسهيل انتقالهم من مكان إلى آخر ..
أصبح يخاف من رؤية هذا الشرطي لأنه قد يكتشف مخالفة غير مقصودة، أو مستلزمات مرورية غير موجودة ، أو تصرفاً غير مسبوق تترتب عليه عقوبة مالية تقدر بآلاف الليرات في إطار قانون السير الجديد !.
-أجل .. أصبحنا نخاف ، كلنا نخاف من دون استثناء ، وما دمنا نخاف ، فنحن إذاً موجودون !!!.

د . موفق أبو طوق

المزيد...
آخر الأخبار