منذ القديم أكد أهل التجديد على ضرورة أن يكون الشاعر مجدداً لامجتراً لأقوال الآخرين بألفاظه, ومعانيه, وصوره.. وكان على رأس هؤلاء الشعراء الشاعر أبو تمام, والناقد عبد القاهر الجرجاني .. وكان لتلك الدعوة أثر عند كثير من الشعراء والأدباء المعاصرين, ولم نجد لها أثراً عند الآخرين . . فنجد شعرهم تقليدياً, واجتراراً للشعر القديم..
ومن ذلك مانشهده في حفلات التأبين التي تقام للراحلين من ذوي الشأن من الباحثين والمفكرين, والفلاسفة,والشعراء, والأدباء. . وتسمع في ذلك مايدعوك للعجب والاستغراب، وكل مشارك يباري الآخرين بالمبالغات والتهويل في وصف مناقب الرجل، فالفقيد عندهم أمير القوافي وعالم العلماء, وهو بحر في الكرم, وشمس في الوضوح ونقاء السريرة, وبعضهم رأى الطبيعة تجهمت عند موته، والعنادل سكتت عن التغريد, والدنيا تحولت إلى ظلام دامس . . و. . و . . حتى قلت في نفسي لم يَبْقَ مفخرة لفخور, فلا شكيب أرسلان بقي محتفظاً بأمارة البيان، ولا شوقي بأمارة الشعر, ولاحاتم الطائي بالجود، وأظن أن الفقيد لو سمع ماقيل لأصيب بالدهشة والعجب العجاب.
لست ضد حفلات تأبين المفكرين والشعراء والأدباء وأولي الشأن، فهذا تكريم ينبغي أن يكون للقامات العالية عرفاناً بفضلهم, ورفعاً لشأنهم ولكنني ضد التقليد والاجترار والمبالغة والافتعال الذي تعافه النفوس التواقة دائماً إلى الجديد، وإن المعاناة الحقيقية, والصدق في العاطفة، شرط دائم لأي عمل يبتغي التوهج وإثبات الذات, أما الافتعال فإنه يجعل القصائد باردة ليس فيها حرارة الشعر, وأثر الكلمة المتوهجة التي لايخبو لمعانها في عيون الآخرين ونفوسهم على مر الدهور والأزمان، والأسوأ من ذلك أنك قد تجد شاعراً يلقي قصيدة رثاء قد كتبها في فقيد قديم، وما عليه إلا أن يغير اسم الفقيد ويعدل أحد أبيات القصيدة.
لقد رثى أبو العلاء المعري أحد أصدقائه وهو (أبو حمزة الفقيه) في قصيدته الشهيرة التي مطلعها
(غير مجدٍ في ملتي واعتقادي نوح باكٍ ولاترنم شادِ)
ولكنه بذكائه وثقافته لم يقف عند مناسبة موت صديقه, ولم يقصر قصيدته على مناقبه فتجاوز المناسبة للتعبير عن رأيه في قضية إنسانية كبيرة طالما شغلت عقول المفكرين والفلاسفة والعلماء منذ قديم الأزل، ألا وهي قضية الحياة والموت، فتناولها أحسن تناول, وعبر عنها أحسن تعبير, برقيٍّ فني جديد, وصور مبتكرة محلقة, وبيان عذب مشرق لا أبهى ولا أجمل ولا أعذب لايزال يطربنا ويمتعنا بعد قرون من الزمن.. هكذا يكون الشعر، وهكذا يكون الرثاء.
د. موفق السراج