نشر د. سعد الدين كليب أستاذ علم الجمال في جامعة حلب:
هذا ما كتبه صديقي الأستاذ راتب الحلاق، في الجميل والجليل. فله تحية المحبة والتقدير:
( بداية ، لابد من الاعتراف بأنني لن أستطيع تقديم إجابة حاسمة بشأن قضية شغلت ولا تزال تشغل الفلاسفة والنقاد والمشتغلين بعلم الجمال ، أعني قضية الجليل والجميل ، كل ما في الأمر أنني سأقارب هذه القضية كما أفهمها أنا على الأقل ، دون أن ألزم أحداً برأيي الذي ما زلت أرجحه إلى أن يتبين لي خطؤه .
اعتدنا أن نصف الشيء الجميل بالرائع ، مع أن الروعة تعني تعطيل آليات الإدراك ، كما تعني عدم القدرة على التدبر والتفكير السليم . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل الشيء الجميل يخلب اللب كما اعتدنا على القول ، ويجعلنا في حالة من الدهشة والذهول عمّا سواه ؟!! و هل يتسم الجميل بالجلال والرهبة التي تعطل القدرة على المحاكمة المنطقية ؟! ثم هل من علاقة مطردة بين الجميل والجليل؟ أم أنها علاقة تحضر وتغيب ؟! ، أم أن الأمر يتعلق بالمتلقي فيحكم على شيء بأنه جميل أو أنه جليل ، أو أنه الأمران معاً في ذات الوقت .قلت في مرات سابقة : إن الحكم في قضايا العلوم الإنسانية يظل في أفق الرأي الشخصي ، أما في حالة الفنون والآداب فيظل الأمر خاضعاً للذوق . والذوق كما يعلم القارئ ، يستند إلى الحواس ، التي تشكل نوافذ الإدراك والفهم تمهيداً للوصول إلى المغزى ( المعنى الشخصي الخاص بالمتلقي ) . فالفنون والآداب تخاطب الحواس ، لأنها تسعى إلى التأثير أكثر مما تسعى إلى تقديم الحجج والبراهين ؛ وبما أن الحواس مشتركة بين بني البشر فالكل يتذوق الفنون والآداب ، والفرق بينهم إن وجد فهو فرق بالدرجة . وينتج هذا الفرق نتيجة قوة الحواس عند بعضهم وضعفها عند آخرين ، ونتيجة التركيز والاهتمام عند بعضهم والتشتت وعدم الانتباه عند آخرين ، ونتيجة ما يمتلكه بعض المتلقين من خبرات ومعلومات تختلف عمّا يمتلكه الآخرون . وقد ينتج الاختلاف عن الانطلاق من معايير متباينة تختلف من بيئة إلى أخرى ، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى … ومع ذلك ، قد يكون ما سأقوله مفاجئاً ، حين أدعي بأن الاختلاف حول قضايا الفنون والآداب أقل بكثير من الاختلاف حول قضايا الفكر والسياسة والاقتصاد وسوى ذلك من قضايا العلوم الإنسانية .
أعود إلى العلاقة بين الجميل والجليل فأقول : إن الجليل يشعرنا بالذهول والدهشة والروعة ، ويسبب لنا التوتر المشوب بالرهبة ، ويشغل فكرنا عمّا سواه ، حتى ذهب بعض الدارسين إلى أن الجليل يثير الخوف . ولاحظ هذا الدارس أن كثيراً من اللغات تربط بين الجليل والكلمات الدالة على الفزع والدهشة .أما الخصائص التي تجعل الشيء جليلاً فتتمثل بالغرابة والغموض ، وبالقدرة على إثارة القلق والرهبة ، والقدرة على إثارة الشعور بالضياع ( ولو للحظات ) ، كذلك الشعور الذي ينتابنا إزاء الأماكن الخالية والمهجورة والمظلمة وشديدة الهدوء والصمت ، والأماكن التي تبدو وكأنها لا متناهية كما في الصحاري والمحيطات . الأشياء الجليلة غامضةوتشكل مصدر قلق وخشية ورهبة ، أما الأشياء الواضحة ، أعني كل ما يمكننا فهمه وتفسيره والاعتياد عليه فليس جليلاً ، أو فلنقل : إن الشيء الغامض يبقى جليلاً إلى أن نفهمه ونعتاد عليه ، فالظلمة تثير قلقنا ومخاوفنا لأننا نتصورها محمّلة بالأخطار والمفاجآت ، ومن هنا يمكن أن نفهم حرص الكهنة في الديانات القديمة على أن تكون المعابد مظلمة ، وعلى أن تجري الطقوس التي يمارسونها في الأماكن غير المرئية وغير الواضحة بالنسبة للجمهور ، بقصد إدخال الروعة والرهبة في نفوس المؤمنين بتلك الديانات . ومن هنا أيضاً يمكن أن نفهم لجوء الفنون والآداب إلى توظيف الغموض لأنه يتيح الفرصة للتأويل المتجدد باستمرار ، ولأنه يزيد من فعالية التأثير في مشاعر المتلقين . وإلى جانب الغموض فإن فكرة الجليل ترتبط بالقوة ، لأن القوي يجعلنا نتوجس خيفة منه ، ولاسيما حين تكون القوة منفلتة من الضوابط الرادعة . ولكن ليس كل قوي جليلاً ، فلأمر ما نشعر بالرهبة تجاه قوي ولا نشعر بمثل ذلك الشعور تجاه من يساويه قوة ، بل تجاه من قد يفوقه قوة ؟! ، فنحن نشعر بالخوف والرهبة من الثور أكثر من البقرة ؟! ومن الذئب أكثر من الكلب ، مع أن الكلب أقوى من الذئب ؟! فالقوة وحدها لا توصف بالجلال إلا إذا أثارت الرعب . وبالمناسبة فإن القوة قد لا تكون ذاتية أحياناً ، فبعض الأشخاص يضيفون إلى هندامهم بعض ( الإكسسوارات ) التي توحي بالقوة والأبهة ، للتأثير في مشاعر الآخرين ، كما فعل الملوك عبر التاريخ ، وليس إطلاق مصطلح صاحب الجلالة عبثاً في هذه الحالة .ويمكن أن يتمظهر الجليل في صور أخرى : فالمعالم الضخمة تثير الشعور بالجلال ، ولعل هذا ما يفسر لنا السبب في ضخامة المعابد وضخامة القصور الملكية . وقد حاول المعماريون والفنانون زيادة قدرة الأبنية على إثارة الشعور بالجلال بإتباع وسائل مختلفة ، مثل التكرار ، فالصورة إذا تكررت مرات متتالية دون أن تتغير أو تحل محلها صورة أخرى فإنها تسبب الشعور بالرهبة والروعة والجلال ، كالأعمدة المتكررة التي توهم بالاستمرار والاطراد . والأبنية الدائرية والقباب تثير الشعور بالجلال كذلك ، لأننا لا نستطيع أن نضع لها حداً ولا بداية ولا نهاية، وزاد من جلال القباب وضع اللوحات والكتابات عليها .والأماكن المرتفعة والأماكن السحيقة تثير الشعور بالجلال أيضاً ، ولكن الأماكن السحيقة أشد إثارة للرهبة والجلال من الأماكن المرتفعة حتى وإن تساوت أبعاد الارتفاع والعمق ؟! . ويمكن أن نضيف صفات أخرى للجليل : كالفخامة والتشظي والبعثرة وعدم الانتظام وعدم التناسق واللون القاتم غير المشرق والشدة والقسوة والتنقلات المفاجئة والحادة بين أجزائه والمظهر الغامض والمبهم وغير الواضح . أما الجميل فيتميز بالتناسق والتناسب والانتظام والرشاقة والرقة والتنوع التدريجي غير المفاجئ . ومع ذلك فإن كثيراً من الأشياء تتسم بالجمال والجلال في آن معاً ، ولعل اللغة العربية كانت على حق حين وصفت الأشياء الجميلة بأنها رائعة (كما سبق وذكرت) ، حتى كدنا أن ننسى المعنى المعجمي لكلمة (رائع) فبتنا نستخدمها في وصف كل ما هو جميل .بقي أن أقول : إن الجميل غير اللطيف ، ومن التعسف أن نختزله بالرشاقة ، فقد يكون الجميل ضخماً ، وقد لا يكون الجليل مرعباً ولا مخيفاً ؛ بل إن بعض الدارسين عدّ الجليل صورة سامية من صور الجمال .
أما عن علاقة الشعر بالجميل والجليل فأقول : إن الشعر يصنع صوراً جميلة وصوراً توحي بالجلال والروعة والرهبة ، بغض النظر عن الأشياء التي يصفها ، فقد تكون الصورة الشعرية جميلة في حين لاتكون الأشياء التي يصفها جميلة، ويحفظ كثيرون منا القصيدة التي ترثي رجلاً مصلوباً ، فقد كانت القصيدة جميلة إلى الدرجة التي تمنى القاتل أن يكون هو المقتول وتقال فيه تلك القصيدة التي مطلعها : (علوٌ في الحياة وفي المماتِ) . وقد تكون الأشياء موضوع الشعر جليلة وقد لا تكون كذلك أيضاً ، فالعبرة في التأثير الذي يحدثه النص الشعري في شعور المتلقي . فالجلال ليس في الشيء ذاته وإنما في الصورة الشعرية التي يصنعها الشاعر عن هذا الشيء ، فعندما يقول النابغة لأحد الملوك بأنك ( كالليل الذي هو مدركي ) فإنه صنع صورة توحي بالرهبة والجلال ، لأنه جعل الملك في جلال الليل ورهبة ظلامه الذي لابد أن يلف كل الأشياء والأماكن بحلكته .
ويمكننا في النهاية أن نقول : إن الجليل يثير فينا الشعور بالإعجاب ثم بالارتياح بعد أن تنطفئ مشاعر التوجس والمهابة . أما الجميل فيثير فينا الشعور بالغبطة والجذل والسرور والنشوة والطرب الداخلي.).