بعد كتابة 400 قصة أشعر انني مازلت بخطواتي الأولى فيها بحاجة إلى خطة وطنية شاملة للنهوض بأدب الأطفال..عندما أكتب للطفل كأني أنحت من صخر
الكتابة للأطفال مغامرة صعبة رغم كثرة من يدعون إتقانها لأنها من السهل الممتنع، تتطلب معرفة عميقة بعالم ونفسية الطفل والتعايش معه وأسلوباً خاصاً وغنى بالصور والمفردات والأفكار ..
تعد الأديبة السيدة مريم خيربك، وهي من محافظة حماة من أهم الأدباء في سورية والوطن العربي الذين كتبوا للأطفال، ورصيدها أكثر من 400 قصة و 600 دراسة، ونالت العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية، وتم ترجمة العديد من قصصها إلى لغات أجنبية ، ومايزال إنتاجها مستمراً حول السيرة الذاتية وأدب الأطفال. كان للفداء اللقاء الآتي :
كيف كانت البدايات والظروف والتوجه لأدب الاطفال ؟
*في قرية صغيرة من قرى ريف حماة (سلحب) أبصرت عيناي النور عام ١٩٥٣، حيث كان الوطن حينها يمرُّ بأحداث وطنية وقومية قريبة مما نمرُّ به الآن….
كان لسورية آنذاك دورها العروبي والوطني الهام، تماماً كما هو اليوم….حيث شكّلت مع مصر والعراق مدّاً ثورياً ونهضوياً طال الحالة الفكرية والسياسية…فكانت تُقالُ القصيدةُ في دمشق وتتردد في أنحاء الوطن العربي كاليمن والجزائر ومصر ولبنان والعراق وفلسطين..
ترعرعتُ في جو سياسي ثقافي تغلغل في جزئيات حياتي وشخصيتي، التي كانت تدفعني إلى الاهتمام منذ صغري بالقراءة من كتب مكتبة الأسرة، وطبعاً هي كتب للكبار, وكانت معظمها من كتب عصر النهضه، إذ لم يكن خارج المدن قصص للأطفال، عدا ماكان ضمن المناهج التعليمية ، والحكايات الشعبية ، وفي ملحق مجلة العربي (العربي الصغير) التي كانت من أهم المجلات العربية في تلك الأيام…..
رغم هذا لاأنسى أني في الصف الخامس ألّفتُ قصة للأطفال، ورسمت لوحاتها فعلقوها في لوحة الحائط لمدة سنتين في مدرسة رابعة العدوية في مصياف ..التي غادرتها لأتمّ دراستي وحياتي في دمشق…
مرّت سنوات الطفولة لم أقرأ من قصص الطفولة سوى ماذكرتُ، وكتاب كليله ودمنه في الصف السادس.
في هذا العمر، وإثر احتلال العدو الصهيوني للقنيطرة في حزيران ١٩٦٧ كتبتُ أوّل بيتين من الشعر، وكانا موزونين ، ثم في الصف العاشر كتبت أول قصة للكبار، إلى جانب قرضي للشعر الكلاسيكي، ووزن التفعيلة ، وكتابتي للخواطر بشكل دائم ،ثم لأتفرّغ لدراستي الجامعية في جامعة دمشق، قسم اللغة العربية ، وفي نفس الوقت أعمل محررة لمجلة الفكر العسكري، مع متابعة المطالعة التي اتجهت فيها إلى قراءة الكثير من الكتب المترجمه…وإذ تنتهي دراستي الجامعية أنتقل إلى وظيفة في الإعلام، وكتابة المقالات السياسية والثقافية….وعلى الصعيد الابداعي أبدأ بكتابة قصص للأطفال، وحينها أي في عام ١٩٨٢، لم يكن لهذا الجنس الأدبي كيانه، ولا حتى الدراسات حوله، شكلاً ومضموناً على الساحة الثقافية السورية….وهنا كانت الصعوبات….
بدأ التحدي عندي عام ١٩٨٢..في الكتابة لقصة الطفل ، وصناعتي لكتابه…..
فبدأت بالحصول على الدراسات التي لها علاقة بالكتابة للأطفال ، وحصلت على نماذج من كتب الأطفال المنشوره في العالم…وكان الاتحاد السوفياتي، ومعه المنظومة الإشتراكية يتربع على عرش العالم كأدب للطفل وكصناعة لكتابه، وكدراسات حول كل مايمت لهذه الساحة بصلة ..وكذلك بعض الدول الأوروبية وخاصة فرنسا التي كانت الترجمات منها والى العربية قوية…..تعلّمتُ وتعلم الرسامون معي من خلال إحضاري للكثير من قصص وكتب الأطفال المطبوعة في العالم. كيف نخرج قصة جميلة للطفل ،كنت أصممها فنياً ليكمل الرسامون رسمها ملوّنة ، ولأطبعها في مطابع القطر التي لم تكن تطبع هكذا كتب للأطفال حينها، أي في الثمانينيات من القرن الماضي، وقد حازت على جوائز عديدة عربية وخارج الوطن العربي….وهكذا وجدت نفسي انني أمام أصعب أجناس الأدب كتابة وصناعة ، إنه الأدب الذي يتطلب مني دراسة للغة الطفل ، وقيمه التربوية ، ونفسيته ، ومجتمعه ،والموسوعات العلمية التي توثق لي علميا العناصر التي أستنجد بها من الطبيعة، ومن ثمَّ كيف أقدم له اللوحات الملونه المتناسبة مع النص والعمر، لأغطي مراحله العمرية كلها بما يناسبها شكلاً ومضموناً وخطّاً….
تتالت مجموعاتي التي كانت حوالى ثلاثمئة وخمسين قصة تحت اسم السنابل والسنابل الصغيرة ،لمراحل عمريه متعدده، يواكبها على الصعيد الصحفي مقالات ودراسات حول أدب الطفل، وثقافته، وتربيته، ومنهاجه التعليمي…واغتنت هذه الكتابات أكثر مع حضوري وتفاعلي في عشرات المؤتمرات والمهرجانات التي دُعيتُ إليها، وشاركت فيها، حتى خارج الوطن العربي، ومع ترجمة قصصي الى عدة لغات، وإحراز جوائز هامة ، وشهادات تقدير من اليونسيف ….وبعض المؤسسات الثقافية في الدول العربية والأجنبية….
وهكذا وبعد أكثر من ستمئةٍ من المقالات والدراسات ، و٤٠٠ أربعمئة قصة نشرتُ معظمها في كتب ، وبعض كتب تعليم الرسم للطفل، وتعليم اللغة العربية له وفق نمط جديد، ماتزال الرحلة صعبة مع كتابتي لأدب الطفل وصناعة كتابه، إذ أشعر انني مازلت بخطواتي الأولى فيها ، لأن كل مرحلة كانت متأثرة بالظرف السياسي والاقتصادي والثقافي لسورية والوطن العربي، وتطور العالم المذهل مع تراجعنا في الوطن العربي لاسيما السنوات العشرين الأخيرة…..وما إن تبدأ هذه الحرب على سورية حتى تتغير أولوياتي وأعود لكتابة المقالة السياسية والشعر المعبر عن انفعالات اللحظه ، والقصة للكبار ، وقصة الأطفال، ودراسات المناهج التعليمية التي يهددها محاولات اختراقنا علمياً وثقافياً..
وطبعاً رافق هذا تأسيسي لدار نشر(الحارث) التي أصدرتْ السلسلة اللغوية (٧٠) كتاباً ، ألفها الدكتور شوقي المعري، وكان من أهمها الموسوعة النحوية لتعليم الأطفال، والتي حازت على جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي كأفضل كتاب للطفل العربي….وأيضاً بعض كتب الأطفال المترجمه والعربية، وكتب منوعه للكبار ….
ماهي أهم مراحل أدب الأطفال في سورية برأيك….؟
** بين الثمانينيات والألفين من القرن الماضي ازدهرت صناعة كتاب الطفل بشكل خاص، وصارت سورية رافداً مهماً للسوق العربية كمّاً ونوعاً، وقد كنت أطبع اربعين ألف نسخة من كتبي حينها كانت تُوَزّعُ خلال أشهر قليلة في السوق المحلية والعربية، حيث شكلت معارض الكتاب والمهرجانات والمسابقات مساهمة كبيرة في انتشار كتاب الطفل السوري، سواء الصادر عن وزارات ومؤسسات الدولة أم القطاع الخاص….وأتذكر في تلك السنوات أن وزيرة الثقافة الدكتورة نجاح العطار قد حرصت على تواجد كتاب الطفل السوري ليس في المعارض العربية للكتاب فقط بل في أهم المعارض العالمية كمعرض إيطاليا المشهور عالمياً، كما حرصت على مشاركة كاتب الأطفال السوري في المسابقات العالمية. وقد حرصتْ أن تشتري الوزارة من المؤلفين عددا هاما من النسخ التي كانت تُوَزَّعْ على المراكز الثقافية ليقرأها مرتادو المراكز التي انتشرت في أنحاء سورية…بالإضافة إلى أنها كانت تهتم بإغناء المكتبة العربية بكتب الأطفال المُتَرجَمة ، والمؤلَّفَة سوريا.
أيضاً كانت منظمة الطلائع واتحاد الكتّاب رافداً يقدم أدباً لابأس به للطفل السوري والعربي وإذ أقول هذا لابد من التأكيد على فكرة هامة وهي أن كل مايخص الطفل من أدب ومسرح وسينما ظل الاهتمام به متراجعا كثيراً عما يخص عالم الكبار بسبب صعوبة كتابته وقلة من يتخصص به من جهة ، وارتفاع تكاليف صناعته وقلة أرباحه نسبياً من جهة أخرى، وهذا ماجعل الاهتمام به يأتي في الدرجة الثانية..
بين الـ ٢٠٠٠والـ ٢٠١١ أثرت حرب العراق وحرب لبنان على الساحة الاقتصادية والسياسية والثقافية العربية بشكل عام وسورية بشكل خاص، فبدأت تجارة الكتاب تختنق وبدأ كتاب الطفل يتراجع، مع تراجع اهتمام مؤسسات الدولة بسبب الظروف، واتخاذ قرار سياسي لبعض العرب يحاصر الكتاب السوري ، وقد تجلى الأمر بأشد حالاته في سنوات الحرب على سورية…التي جعلتنا نكاد نبدأ من جديد ، حيث يواجه الكتاب بشكل عام أزمات كثيرة تحاصره ليس أولها انتشار التقنيات بشكل مذهل وفوضوي في عالمنا العربي وانتشار ثقافة جديدة تدعم بشكل ممنهج تدمير الثقافة الوطنية والقومية على مدى ساحة الوطن العربي..
مارأيك بأدب الطفل السوري الآن تحديداً..؟
بدأت الحرب على سورية كأبشع ماتكون الحروب ،وكان نصيب الأطفال من بشاعتها فظيعاً ، مابين أطفال فقدوا أهلهم ، أو أقاربهم ،أو رفاق المدرسة(وهي الأشد قساوة على روح الطفل) ، أو منازلهم ، أو قراهم، أو شُرٍدوا خارج سورية ، أو صاروا تحت حكم الإرهاب وفظاعته، وهذا كان مما واجهته الدولة التي كانت تتعرض إلى تدمير بنيتها التحتية ، بشكل مدروس يريد إنهاء مايُسمى سورية دولة وشعباً ….لذلك مرت السنوات الأولى والدولة في حالة دفاع عن وجودها ، وكان أهم شيئ هو تأمين استمرار الحياة أولاً، ثم التعليم ، والقطاع الصحي ، مع المحاولة للنهوض بالشأن الثقافي….الذي لاشك أنه سيمر بمرحلة طويلة قبل ان يعود إلى مساره الذي كان على الأقل… الآن بعد تسع سنوات من الحرب المشهد كالتالي:
يوجد كتّاب اطفال على مستوى جيد في سورية، ويوجد جهود هنا أو هناك ،لكن صناعة الكتاب أو المسرح،أو السينما للطفل يحتاج سياسة مدروسة، ودعماً مالياً وسوقاً …وهذا في هذه الظروف ليس بالأمر السهل حيث معظم نوافذ السوق العربية أغلقت في وجه الكتاب والنشاط الثقافي لأسباب متعددة ،لذلك نأمل أن تكون المناهج التعليمية الصادره عن وزارة التربية عندنا النافذة الهامة على أدب الأطفال وثقافته ، هنا لابد من القول أن على المؤسسات الحكومية المعنية (اتحاد الكتّاب، وزارة الثقافة، وزارة التربية، منظمة الطلائع ، اتحاد الناشرين السوريين) أن يبدؤوا بخطة وطنية مدروسة، تأخذ بالحسبان جميع أطفال سورية وما تعرضوا له، كي تقدم مايعالج ظروفهم ونفسياتهم وثقافتهم لتخرجهم مما أصابهم بأقل الأضرار…..وهذا يتطلب استدعاء ذوي القدرة والمعرفة والعلم واستثمار خبرتهم في هذا المجال لا تكرار ماتم الوقوع به سابقاً من فشل …
ماالذي يميز أدب الأطفال عن الأدب الموجه للكبار….؟
عندما كنت أكتب للطفل كنت وكأنني أنحت من صخر، بينما حين أقرض الشعر أو أكتب القصة للكبار كأني أغرف من بحر،كما قال أحد الشعراء القدامى…..طبعاً بشكل تقريبي…
الكتابة للأطفال صعبة جداً، فقبل كل شيئ يجب ان نمتلك الموهبة التي تجعلنا نمتع الطفل بكتابة إبداع يجذبه ويتملكه،ومن خلاله نؤسس لثقافة المطالعة التي يجب أن يشعر الطفل، وهو يمارسها، أنه في نزهة سعيد ومستمتع بها… لا أن نقدم سرداً إنشائياً مملاً يجعله يمل ويترك القصة بعد وقت قصير…
الأمر الآخر هو أننا عندما نكتب نصا للكبار يقرأ هذا النص من ابن الـ ١٨ حتى ابن الثمانين والتسعين ،والقارئ عنده ثقافته ولغته ومخزونه الفكري..وو.. والنص من حياة يعيشها ويتفاعل بها، ويعرف أرضيتها، بينما حين نكتب للطفل نأخذ بالحسبان أننا نؤسس لثقافته ولغته ومخزونه المعرفي وعالمه النفسي والاجتماعي…لذلك فالنص الذي أكتبه للأطفال يجب أن يراعي المراحل العمرية للطفل، لغة، وقيمة تربوية، وأسلوباً، وبناءً نفسياً، وعناصر (أي الشخوص)، وان يُخرَجَ لوحةً وخطاً إخراجاً بما يتناسب وكل مرحلة…
ولعلّ أصعب كتابة هي للمراحل العمرية الأصغر، لأن قاموس الطفل اللغوي في هذه المرحله يكون بسيطاً وضحلاً نسبياً، وفهمه للغة في بدايته،وأيضاً للقيم..ونَفَسُ الطفل يكون قصيراً يجعله يملُّ من الجمل الطويلة…..أي يحتاج الكاتب إلى طرح القيمة بأقصر الجمل وأبسطها، وأبسط المفردات،لذلك نجد أنَّ الكتابة لهذه المرحلة العمرية قليلة جداً، وتقع في مطبات الفشل كثيراً، فكم من نص يعتبر كاتبه أنه يكتبه لابن ٦ سنوات بينما هو في الحقيقة كقيمة لهذا العمر، وكأسلوب ولغة لعمر الـ ٩ سنوات…..إن أدب الأطفال هام جداً لأنه يشكل مخزونه اللغوي والمعرفي والتربوي، ويؤثر على شخصيته وبنائه النفسي والأخلاقي، ويلبي تطلعاته الخياليه التي ترتبط بواقعه المُعاش..
برأيك ..هل تأثر أدب الأطفال بوسائل التواصل الإجتماعي…؟
هناك شقَّان لهذا الأمر: الشق الأول يتعلق بتأثير هذه الوسائل كاختراق ثقافي، وهنا أقول نعم تأثر عبر ضخ أدب الأطفال العربي وغير العربي المسيَّس عن طريق الأقنية التلفزيونية، والإنترنت، وألعاب الأطفال الالكترونية وغير الالكترونية الحديثه التي تبهر الطفل ،وتجعله يتعلق بها ، لاسيما وأن نمط التربيه في الوطن العربي بشكل عام هو نمط فوضوي وغير واعٍ ، من قبل الأهل والمدارس…
_الشق الثاني : وهو يتعلق بالعملية التربوية من جهة الأهل والمدرسة ، والتي فيها الكثير من الإهمال ، وعدم التوجيه، وغياب ثقافة المطالعة، وعدم مرافقة الطفل إلى المراكز الثقافيه لحضور أنشطة تخصه، أو إلى المسرح ، والاستعاضة عن كل ماذكرت بشاشة الكمبيوتر أو الموبايل لنشغله دون رقابة ، وهنا تكون التأثيرات السلبية على فكره ونفسيته وصحته …وكم أصبحنا نسمع قصصاً خطرة حول هذه الأمور..
أمام هذا الواقع ماالحل كي نعيد لأدب الطفل في سورية دوره الهام في التربية والتعليم ، وفي معالجة قضايا طفلنا القديمة_ الجديدة بعد هذه الحرب الطويلة ..؟
قبل كل شيئ أن نبدأ بخطة وطنية تشارك فيها مؤسسات الدولة المعنية، والقطاع الخاص، إلى جانب الإعلامي والسينمائي، وحتى الأفراد المتميزون في هذا المجال ،كي يساهم كل من له علاقه بدءأ بالأديب، الى الباحث في علم الإجتماع ،إلى المختص بعلم النفس، وبالأخص علم نفس الطفل ، إلى الرسامين ، إلى ذوي الخبره في التربية والتعليم …..إلى ذوي الخبرة بصناعة كتب الأطفال والبرامج المنوعة، وهذا يعني إشراك إعلاميين لهم باع في هذا المجال كي نخرج بخطة وطنية شاملة تدرس كل جوانب هذه الساحة الطفلية وكل ماحلَّ بها من مشاكل سابقاً ولاحقاً ،وكل احتياجاتها..والبدء بتنفيذ كل مايتم التوصل إليه ،وبأقصى سرعة….والأهم إبعاد المتطفلين الذين عادوا إلى الساحة الآن، بعد غياب كل هذه السنوات عنها، وعن سورية وما حل بها ليستثمروا فيها ، وليشغلونا بزيف المهرجانيات بعيداً عن العمق ….وبعيداً عن الوطن..
عبد اللطيف يونس