في السادسةِ من عُمري كنتُ مولعاً كباقي الأطفالِ بالشخصيةِ الكرتونيِة الخارقةِ سوبرمان، وكان مَثَليَ الأعلى أجدُ كلَّ صفاتهِ تنطبقُ على أبي- رحمهُ الله – فقد كانَ يلبي لنا طلباتِنا مهما كانت صعبةً، إذا أعياني المرضُ وضعَ يدَهُ الحانيةَ على جبيني وتمتمَ بعباراتٍ لا أكادُ أفهمها فإذا بالعافيةِ تدبُّ في جسدي ويعاودني النشاطُ،
حينَ نشعرُ بالبردِ أنا وأخوتي يضمُنا تحتَ عباءتهِ الواسعةِ فيسري الدفءُ في أجسادنا، وتغادرُنا القشعريرةُ إلى غيرِ رجعةٍ ، عندما كنتُ أتعبُ من المسير يحملُني على كتفيهِ، فأشعرُ أنني أطيرُ بين السماءِ والأرضِ وأكادُ أقطفُ القمرَ من السماءِ ، لم تكُ طلباتنا الكثيرةُ تعجز والدي السوبرمان فيتسلقُ سطحَ بيتنا المهترئ رُغمَ كِبَر سنهِ، والمطرُ يهطلُ بغزارةٍ ليصلحهُ ويوقفَ الدلفَ الذي يكادُ أن يغرقَنا أنا وأخوتي، وفي ليالي العيدِ و بالرغمِ من معرفتِنا أنه لا يمتلكُ النقود الكافيةَ، نراهُ يدخلُ علينا يومَ الوقفةِ بوجههِ المتهللِ كالبدرِ ليلةَ التمامِ بحملٍ تنوءُ بهِ العصبةُ أولو القوةِ ، فيه كلُّ احتياجاتِ العيدِ من مطعمٍ وملبسٍ ومشربٍ ، ولم نكُ يومها من شدةِ فرحنا ننتبهُ لحذائهِ المهترئ و ثيابهِ المرقعةِ، فأبي سوبرمان يستطيعُ حلَّ أيةَ معضلةٍ تعترضنا، أو مشكلةٍ تعكرُ صفو حياة أسرتنا.
أبي السوبرمان كان يحققُ لنا كلَّ مطالبنا قبلَ أن تنطقَ بها شفاهنا.
ابي السوبرمان كان يصارعُ الكونَ كلَّهُ ليرسمَ البسمةَ على وجوهنا.
أبي السوبرمان لا يكلُ ولا يملُ ولا يتعبُ ولا يتأففُ من مطالبنا الملحةِ وحاجاتنا الكثيرةِ.
أبي السوبرمان كان يحملَ على أكتافهِ أكياساً كبيرةً من الحطبِ ،شتاءً ليدفئنا بها.
ويحملُ أقفاص الخضارِ والفاكهةِ وجبينهُ يقطرُ عرقاً والابتسامةُ لا تفارقُ محياهُ رغم التعبِ.
أبي السوبرمان كان يستطيعُ العيشَ لوقت طويلٍ بلا طعامٍ
أبي السوبرمان كان يسارعُ لإنقاذنا حينما نتورطُ أو نقعُ في مشاكلَ عويصةٍ.
أبي السوبرمان كان رجلاً خارقاً للعادةِ
لا يصعبُ عليه أي شيءٍ يصلحُ الأبوابَ الخشبيةَ و يركبُ الزجاجَ المكسورَ و يطلي الجدرانَ و يرممُ المنزلَ بمفردهِ.
ويصلح جميعَ الأعطالِ في المنزلِ.
كنت افتخر بأبي السوبرمان الذي لا يَعجزُ عن شيءٍ ولم يحرمنا من شيءٍ
كَبرتُ أنا وأخوتي بعد أنْ تلقينا جميعاً أفضلَ تعليمٍ ولبسنا أفضلَ الملابسِ وعشنا في كنفهِ أرغدَ العيشِ.
كنتُ كلما سألتهُ عن سبب قوتهِ الخارقةِ -في نظري – يجيبني بابتسامته المعهودةِ غداً عندما تكبر وتتزوج سأخبرك بالسرِ.
وها أنا وقد كَبرتُ وتزوجتُ وأنجبتُ بكري الأولَ أزورُ بيتَ والدي لأقف بين يديهِ متأدباً متذللاً .
وأسأله بترددٍ:
أبي لقد قُلتَ لي أنك ستبوحُ لي بسرك بعدَ أن أتزوجَ وأنجبَ وها أنا قد جئتك بحفيدكَ
فما هو سرُ قوتكَ يا أبي ؟
وقبلَ أنْ ينطقَ أبي السوبرمان بأي كلمةٍ وكعادتي سحبتُ يدهُ لأقبلَها وحينها اكتشفتُ أنَّها لم تعدْ ناعمةً كما عهدتها كانت الشقوقُ تأكلها كأرضٍ جرداءَ لم يغازلْها المطرُ يوماً.
نظرتُ إلى وجههِ البشوش وكأنَّي للمرة الأولى أرى تلكَ التجاعيدُ -التي خطها قلم الزمانِ -تغزو جبهتهُ الوضاءة .
لاحظتُ ارتعاشةَ كفَّيهِ وهوَ يسحبُ يدهِ وانحناءةَ ظهرهِ وكأني أرى شخصاً آخر يمثلُ أمامي غيرَ أبي السوبرمان.
حينها أيقنتُ أنَّ أبي لم يكُ سوبرماناً
أبي كان رجلاً طيباً وفلاحاً بسيطاً
يجوعُ لنشبعَ أنا وأخوتي..
ويعرى ليكسونا …
ويتعبُ ليريحَنا….
ويهرمُ لنشُبَ…..
يقومُ بكلِّ الأعمالِ بيديه ليوفرَ أجرةَ العمالَ ليُدَرِسَنا
يعملُ ليلاً ونهاراً ليلبي مطالبنا أنا وأخوتي..
يحرم نفسه ليُسعدَنا
أبي لم يك سوبرماناً.
أبي كان رجلاً فوق العادة، أباً حنوناً ومعلماً صابراً، وأخاً يشد أزرنا ،وجبلاً يحملُ همومناً، وقلباً يحتوينا وسكناً يأوينا ،وملجأً نلوذ به من غدر الزمانِ
أبي لم يك سوبرماناً
أبي كان أباً بكلِّ ما تحملهُ الكلمةُ من معنىً
وحينها انكببت أقبلُ رجليه والدموعُ تنهمر من عينيَّ وقد عرفتُ سرَ قوتهِ وصبرهِ وجلدهِ
رحمك الله يا أبي!
لم تك سوبرماناً ولكنَّك كنتَ أبا ً.
د. عبد الرزاق قبا خليل