الفداء _ زهراء كمون
تُعدّ الهوية الوطنية إحدى الركائز الفكرية والسياسية الأساسية في بناء الدولة السورية الحديثة، فهي الإطار الذي تتلاقى فيه الانتماءات المتنوعة ضمن مفهوم المواطنة الجامعة.
ومنذ صدور أول دستور سوري عام 1920 مرّ مفهوم الهوية الوطنية بتحولات عميقة ارتبطت بمراحل الاستقلال والانقلابات وتبدّل الأنظمة السياسية، وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي تشهد نقاشاً واسعاً حول مفهوم الانتماء والمواطنة في سوريا الجديدة.
من النص الدستوري إلى التجربة الوطنية
ركّزت الدساتير السورية المبكرة على الهوية القومية العربية كخيط جامع للمواطنين، في حين همّشت فترات لاحقة التنوع الثقافي والاجتماعي، ولا سيما خلال العقود التي تلت سيطرة حزب البعث، حيث طُبعت الهوية السورية بلون سياسي واحد وارتبطت الرمزية الوطنية بالسلطة أكثر من المجتمع.
ومع الإعلان الدستوري الأخير بدأت ملامح الاعتراف بالتنوع الاجتماعي والثقافي تتبلور في النصوص القانونية بما يعكس تحوّلاً نحو فهم أكثر توازناً وشمولاً للهوية الوطنية.
محاضرة الزعبي: قراءة فكرية في مسار الهوية
في هذا السياق جاءت محاضرة الدكتور زيدون الزعبي، الأكاديمي السوري المتخصص في الحوكمة، والتي ألقاها يوم الخميس 6 تشرين الثاني في المركز الثقافي بمدينة مصياف، بحضور مدير المنطقة وممثلين عن مديرية الشؤون السياسية وعدد من المهتمين بالمجالين الثقافي والمجتمعي.
تناولت المحاضرة موضوع المواطنة والهوية الوطنية من منظور فكري وتاريخي، واستعرض الزعبي تطوّر الدساتير السورية منذ تأسيس الدولة، موضحاً أنّ بعض المراحل شهدت تهميشاً للهويات الفرعية وتغليباً لرموز السلطة على الرموز الوطنية الجامعة، وهو ما انعكس سلباً على وعي المواطن وممارسته للمواطنة.
وانطلق الزعبي في مداخلته من رؤية فكرية قدّمها في عدد من أبحاثه، أبرزها دراسته المنشورة في مركز حرمون للدراسات المعاصرة (2022) بعنوان «الهوية الوطنية في الدساتير السورية»، حيث يرى أنّ الهوية الوطنية ليست شعاراً سياسياً ولا قراراً إدارياً، بل هي عملية اجتماعية وثقافية تتشكل من تراكم التجربة التاريخية للمجتمع.
وأكّد أن الهوية المتماسكة لا يمكن أن تُبنى إلا على أساس عقد اجتماعي متوازن، يقوم على العدالة والمواطنة والمساواة أمام القانون.
كما أشار إلى أنّ الدستور بوصفه النص الأعلى للدولة يجب أن يعكس قيم المجتمع لا أن يفرضها عليه، وأنّ تطوير الهوية الوطنية في سوريا المستقبل يحتاج إلى تكريس مفاهيم المشاركة والاعتراف بالتعددية وتجاوز الإرث الإقصائي الذي ساد في العقود الماضية.
الهوية الوطنية بعد 2011: الثورة والتحول
منذ انطلاق ثورة الكرامة عام 2011، أُعيد فتح ملف الهوية الوطنية بعمق غير مسبوق، إذ كشفت سنوات الحرب عن هشاشة بعض المفاهيم القديمة التي ربطت الانتماء بالولاء السياسي أو الطائفي.
ومع نهاية عام 2024، في مرحلة ما بعد الانتصار الوطني السوري، برزت الحاجة إلى بناء هوية وطنية جامعة تقوم على الحرية والعدالة والمواطنة والمساواة أمام القانون.
أشارت دراسة منشورة على موقع مركز حرمون للدراسات المعاصرة (2022) بعنوان «تحولات الهوية السورية: الواقع والآفاق»، إلى أن إعادة بناء الهوية تتطلب تفكيك سرديات السلطة السابقة وإعادة تعريف الانتماء الوطني على أسس مدنية جامعة تعترف بالتنوع الاجتماعي وتمنع الإقصاء.
هذه الرؤية هي ذاتها التي أكدها الزعبي في محاضرته بمصياف، حين شدّد على أن الهوية الوطنية مشروع مستمر للتوافق لا للإجماع القسري، وأن تجاوز آثار الحرب والانقسام يمر عبر المصالحة المجتمعية وإعادة الثقة بين المواطن والدولة.
نحو هندسة جديدة للهوية والمواطنة
وفي الاتجاه نفسه، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2025 كتاب الباحث محمود باكير بعنوان «هندسة الهوية الوطنية: تحليل لأزمة الانتماء في سوريا وسبل إعادة بناء المواطنة».
يقدّم باكير في مؤلفه رؤية فكرية ترى أنّ الهوية ليست قراراً سياسياً بل عملية تراكمية تشاركية تقوم على وعي ثقافي ودستوري، ويؤكد أن تحويل النصوص القانونية إلى ممارسة واقعية هو الشرط الأساس لترسيخ الهوية الوطنية الحديثة.
وقد لاقى الكتاب اهتماماً واسعاً من وسائل الإعلام الثقافية، بينها صحيفة الوحدة ووكالة سانا، لما حمله من مقاربة جديدة في معالجة أزمة الانتماء السوري.
تلتقي هذه الرؤى جميعها في فكرة جوهرية مفادها أنّ الهوية الوطنية السورية لم تعد شأناً قانونياً أو رمزياً فحسب، بل أصبحت مشروعاً فكرياً ومجتمعياً متكاملاً يُعاد بناؤه في ضوء التجربة التاريخية والتحولات السياسية الراهنة
وتمثّل محاضرة الدكتور زيدون الزعبي في مصياف نموذجا عمليا لهذه المقاربة، إذ جمعت بين تحليل الدساتير كمصدر للهوية، وبين الدور الثقافي والمجتمعي في تجسيدها واقعا.
إنّ الهوية السورية الجديدة، كما تتشكل اليوم، ليست هوية إقصاء أو انغلاق، بل هوية توازن ووعي ومواطنة، تستمد قوتها من تنوع مكوناتها، ومن سعيها نحو بناء دولة مدنية عادلة تُعيد للمواطن مكانته كحامل للهوية لا تابعاً لها.
#صحيفة_ الفداء