كتب المفكر والناقد الأدبي عطية مسوح عن دور النقد في إبداع الشعراء:
إلى أيّة درجة يهتمّ الشاعر بالنقد والنقّاد؟
منذ أقدم عصور شعرنا العربيّ كان ثمّة شاعر يبدع وناقدٌ يفسّر ويقوّم ويطلق أحكامه وتصنيفاته. فهل أفاد النقدُ الشعراءَ؟
أعلمُ أنّ الشاعر يقرأ كثيراً من كتب النقاد والمنظّرين والباحثين في حقل الشعر والأدب, وهذا أحد مصادر غنى ثقافته, لكنّني أظنّ أنّه /حين يكتب الشعر/ لا يفكّر بها, ولا يتذكّر شيئاً من المقاييس والمساطر النقديّة, لأنّه يعلم أنّ الإبداع هو الأصل وأنّ النقد هو التابع, يعلم أنّ النقد ينهل من نبع الشعر وليس العكس.
سأضع بين أيدي الأصدقاء ثلاث قصائد لثلاثة شعراء كبار, تُعبّر عن ضيق الشاعر بمقاييس النقاد وأحكامهم.
القصيدة الأولى لمحمود درويش, وهي بعنوان (اغتيال)
يغتالني النقاد أحياناً
يريدون القصيدة ذاتها
والإستعارة ذاتها
فإذا مشيتُ على طريق جانبي شارداً
قالوا لقد خان الطريقَ
وإن عثرت على بلاغة عشبة
قالوا تخلّى عن عناد السنديانِ
وإن رأيت الورد أصفر في الربيعِ
تساءلوا: أين الدم الوطني في أوراقه؟
وإذا كتبت: هي الفراشة أختي الصغرى
على باب الحديقةِ
حرّكوا المعنى بملعقة الحساءِ
وإن همستُ: الأمّ أمّ حين تثكلُ طفلها
تذوي وتيبس كالعصا
قالوا: تزغرد في جنازته وترقص
فالجنازة عرسه
وإذا نظرت إلى السماء لكي أرى
ما لا يُرى
قالوا: تعالى الشعر عن أغراضه…
يغتالني النقاد أحياناً
وأنجو من قراءتهم,
وأشكرهم على سوء التفاهمِ
ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة
أمّا صقر عليشي فيعبّر عن الموقف ذاته, بأسلوبه الخاص, الساخر المدهش, فهو يُعلن أنّه مات عجزاً عن الوصول إلى ما يراه النقاد حداثة, وهذه قصيدته (فجيعة):
اندبوا أصدقائي اندبوا..
ولولوا..
– ولولوا هي أحلى –
ولا تبخلوا بالدموع عليّ
اتركوا كل أعمالكم
لم أكن سيئاً معكم
من يكن منكمُ مع فتاةٍ
ليترك لها عطرها..
ومن كان يكتبُ فليرمِ من يده
من يكن في الحراثةِ فليترك الحرثَ
لم يُخلق الناس كي يُذهِبوا عمرهم
في الحراثة..
اندبوا أضدقائي…
سقطتُ على بعد مترينِ
قبل وصولي الحداثة
والشاعر حسن بعيتي له عالم غير عالم النقاد, هو عالم الإبداع العفوي الحرّ, إنّه لا يلهث وراء استحسان النقاد إذا فعل غيره ذلك:
تركت لكم كلّ أوسمة النقد
كلّ ضباب الرؤى
فأنا شاعر طيب القلبِ
لا أحسن الرقص فوق غيوم المجازِ
ولا السير فوق حبال المعاني
أسمّي الربيع ربيعاً إذا راقني
وأسمّي الشتاء.. شتاءْ
أرى في المدى
ما يرى البسطاءُ جميعاً
وأشركهم ما استطعت معي في الغناءْ
تركت لكم كلّ أوسمة النقدِ
ثمّ اكتفيتُ
بهذا الفَراش الذي طار نحوي
وتلك البروق التي ضحكت
في عيون النساء