دراما : د. وليد سيف …مبدع الدراما التاريخية

للدراما التاريخية وقعها وألقها في استنهاض واقع أمة تتعرض لأبشع هجمة شرسة تستبيح أرضها وسماءها وإنسانها ,فتبحث في بطون كتب التاريخ عن شكل للبطولة والفداء والرفعة التي تطال نجوم السماء ,لتضيء ظلمة ليلنا الحالكة .
دراما …..تجربة قديمة
منذ أن استولى التلفاز على حياتنا وأصبح شريكاً في سهرنا وحواراتنا ,قدمت الدراما التاريخية ,ولكن للأسف الشديد ,بطريقة سطحية انفعالية , طبعاً ما أقصده هو كتابة السيناريو والحوار ,أضف إلى هذا ركاكة اللغة الفصحى المتداولة في حوار العمل الدرامي ,ويأتي الإخراج ليزيد الطين بلّه ,وأذكر على سبيل المثال لا الحصر مسلسل (عمر بن عبد العزيز) بطولة النجم العربي نور الشريف ,لقد نفذ شبه كامل داخل الأستديو, حتى إن مخرج العمل لم يقدم معركة واحدة تؤكد وتثبت تاريخياً الفتوحات الإسلامية في عهد هذا الخليفة العادل ,ولكن النهضة الحقيقية التي أحدثت انقلاباً في صناعة الدراما التاريخية ,هي عندما تصدى الكاتب المسرحي عبد الرحمن محفوظ لتقديم عدة أعمال ستبقى خالدة في الذاكرة العربية أذكر منها (ليلة سقوط غرناطة و سليمان الحلبي و عنترة )وكان شريكه في الإبداع المخرج الرائع عباس أرناؤوط ,هذه الشراكة المبدعة أثمرت هذه الأعمال الرائعة ,ومن يتذكر تلك الأعمال التي كتبت بطريقة ساحرة ورقي في الجمل الحوارية يشعر أنه أمام سجال شعري درامي ,بل والأهم من هذا إنصافه لبعض الشخصيات الشعبية مثل شخصية( شيبوب) أخي عنترة لعنترة ,في السينما قدم وكأنه صعلوك مهرج وتابع لعنترة ,في مسلسل (عنترة) قدمه بطريقة مدهشة فهو الفارس الهمام والعاشق الولهان لابنة الملك زهير ولعب دوره الفنان الكبير عبد الله غيث ,وهو الند لعنترة بالحكمة والفروسية والعشق ,ولقد أثبتت تجربة (عبد الرحمن محفوظ وعباس أرناؤوط) أنها الأكثر نضجاً فنياً وفكرياً على مستوى الوطن العربي وللأسف الشديد توقفت لأسباب كثيرة يصعب حصرها ,إلى أن ظهرت تجربة د. وليد سيف ككاتب سيناريو وحوار وحاتم علي كمخرج رائد بالأعمال الدرامية التاريخية العربية وليثبتا اسميهما كأهم تجربة ثرية في الساحة العربية بجدارة,فقدما (ربيع قرطبة و صقر قريش وصلاح الدين وعمر بن الخطاب والتغريبية الفلسطينية.. لقد تألق النص الدرامي التاريخي وتكامل مع الإخراج الساحر بالصورة والكلمة , فقدم حاتم علي معارك حربية ضخمة تقارب على صعيد التكنيك الإنتاج الهوليودي.
صقر قريش …ورقي اللغة
يعرض الآن مسلسل صقر قريش على إحدى المحطات العربية ,ورغم أنني قد شاهدت هذا العمل سابقاً ,إلا أنني لا أخفي سعادتي ومتعتي وأنا أتابع هذا العمل وسأتناول فقط اللغة الدرامية وكيفية تناول الحدث التاريخي وكيفية إنتاجه بشكل درامي مبدع ,إن د. وليد سيف ليس قارئاً للتاريخ ولا باحثاً تاريخياً بل هو يفوق هذا وذاك , بصقر قريش يدخلنا د. وليد سيف في دهاليز السلطة والحكم وبناء الدولة التي تحمل سمة الإمبراطورية ليصفعنا بحقائق موجعة,فمن الدسائس والفتن التي تحيط بالقصر وداخل القصر, وكيف ينقلب ابن العم على ابن عمه والأخ على أخيه والابن على أبيه ,هي قوانين الحكم والسلطة ,كيف استطاع بنو العباس نزع السلطة من بني أمية بطريقة دموية وحشية دون أن تأخذهم رأفة أو رحمة ,وتتم المطاردة للنيل من عبد الرحمن بن معاوية الأمير الأموي الوحيد الذي نجا من الموت الذي يطارده ,وفي رحلة تحمل بطياتها الموت بكل لحظة ومعه خادمه بدر وخادمه أبو شجاع ,قدم تفاصيل رحلة من بلاد الشام إلى الأندلس وقد حملت من المخاطر والمهالك الكثير في كل بقعة أرض يطؤونها ,لأن جنود بني العباس ,أو ما أطلق عليهم (المسودة) للون راياتهم التي يرفعونها ,تطاردهم أينما حلوا ورحلوا , ويذهلنا بحكمة وحسن تدبير خادمه بدر ,في مواجهة الأخطار والبراعة في الخلاص من فكي الموت المتربص بهما ,ويدخل أرض الأندلس قبل سيده ليهيء له الظروف المناسبة ,كي ينتزع الملك من القبائل المتناحرة على زعامة الأندلس ,ويصل عبد الرحمن الداخل ليقيم تحالفات مع بعض القبائل ويحارب من لا يؤيده ,لقد بطش صقر قريش بأعدائه بطريقة دموية مخيفة جداً حتى استطاع أن يثبت أركان دولة بني أمية في الأندلس ,رغم وجود الخليفة العباسي القوي أبو جعفر المنصور في بغداد ,وهو من أسماه بلقب صقر قريش.
قدمت شخصية الخادم بدر بأسلوبية الجندي المجهول فهو قد شارك بنزع وتثبيت الحكم لصقر قريش ولكنه لم يذكر في صفحات التاريخ إلا كخادم لكنَّ د. وليد قد برع في نسج شخصية تحمل من الدهاء والحكمة والشجاعة مايماثل وينافس سيده ,ولكن لكونه من عامة الناس ولا ينتمي إلى تلك الأسر العريقة في الجزيرة العربية فقد ذهب ذكره في صفحات التاريخ.
أما الأمير عبد الرحمن الداخل فقد سحرنا في حكمته وشجاعته بالنهوض ببناء دولة في أقصى الغرب من الإمبراطورية الإسلامية دون أن يداخله اليأس والجزع من مشروع هو في مهب الريح ,يقاتل القبائل القيسية واليمنية وزعماء الفرنج (القشتالة) وقد أجبرهم صاغرين على أن يدفعوا له الجزية، والأفظع من هذا أنه يقتل ولدي أخيه (أبان) ,عندما علم بأنه يتآمر عليه ,ويبرر كل خطوة كفيلسوف خبر خفايا الناس,وشهوة الطامعين للسلطة وكأنه السياسي المفكر القائد الذي يسعى نحو بناء دولة قوية متقدمة وحضارية ويتفوق على جميع الممالك الأوربية ,فهو صاحب المقولة (الملك عقيم ) وأجمل ما حمله هذا العمل الدرامي الرائع هو الختام ,عندما يجلس الأمير مع خادمه بدر الذي أبعده عن خدمته ,يتكلم بكونه إنساناً لا يحمل الضغينة والكره لبني العباس بالرغم من أنهم فتكوا ببني قومه (بني أمية) ويطلب منه العودة للقصر، فيرفض طلب أميره ليودعنا المخرج المبدع حاتم علي على إيقاع راقص يبدأ بالصفير وينتهي بتصاعد موسيقي ساحر للموسيقي الفنان طاهر مامللي.
محمد أحمد خوجة

المزيد...
آخر الأخبار