النقد في الميزان

منذ القديم كان للنقد حضوره بهذا القدر أو ذاك، وقبة النابغة الذبياني التي كان الشعراء يقصدونها في سوق عكاظ ليحتكموا إلى هذا الشاعر في أيّهم أشعر من الآخر, لاتغيب عنا في هذا المجال.
وكم من شاعر قديم ضاق ذرعاً بأحكام النقاد التي لم تكن تعرف المحاباة، أو المجاملة، أو المصلحة، أو الهوى، في النفوس, فتمرَّد على تلك الأحكام، ومن هؤلاء شاعر قال للناقد (خلف الأحمر) : إذا قلتُ أنا الشعرَ واستحسنته, فلن أبالي بما قلتَ فيه أنت وأصحابك.
فأجابه (خلف) : إذا أخذتَ درهماً فاستحسنتَه, ثم ذهبتَ به إلى الصرَّاف فقال لك إنه رديء, هل ينفعك استحسانك له؟ وغير هذين الناقدين كثيرون مارسوا النقد, وكان لهم صوتهم وحكومتهم, ودلوا على أن الناقد الحق، حكمه لايُرَدُّ لأنه يكتشف في الآثار المنقودة مالا يكتشفه الآخرون.
وفي عصرنا الحاضر كثيراً ماترددت على ألسنة الكتِّاب والمفكرين هذه المقولة: (إذا غاب النقد تهافت الأدب الضعيف، أو الساقط المبتذل على الظهور في الساحة) أوقولهم: إن كثرة الأدب الرديء سببها اختفاء الناقد الحقيقي الذي يتحلَّى بالثقافة الواسعة والنزاهة والموضوعية، التي تؤهله لإصدار أحكامه، وتسلّط من ليسوا أهلاً لهذا النقد, وتصديهم لممارسة هذه المهمة الشاقة وإصدار أحكامهم النقدية دون وجه حق.
ومن أسف شديد أن هؤلاء (النَّقَدة) تعج الصحف والمجلات المعاصرة بكتاباتهم النقدية, ودراساتهم عن هذا الكتاب أو ذاك، أو هذا الديوان الشعري أو سواه, فيرفعون بـأحكامهم من يريدون رفعه، فإذا بشاعر ضعيف أو قليل الموهبة يحكم له الناقد بأنه شاعر كبير, ويقول عنه: ( لله درُّه من شاعر قلَّ أن يجود الزمان بمثله وبمثل ما أتى به من رائع الشعر). وسبب هذا الحكم أن الشاعر المذكور صديق حميم له, ويبتغي من الكتابة عنه مصلحة يريد تحقيقها لنفسه, أو أنه شخص وراءه منفعة ما لأن له موقعاً معيناً، ويتم نشر مثل تلك الدراسات النقدية في الصحف والمجلات بعلاقات شخصية أيضاً, ومعارف متينة مع القائمين على النشر, كما أن بعض القائمين على النشر يُسوِّقون لأنفسهم فينشرون دراسات عن أنفسهم لمصالح متبادلة بين الكاتب والمكتوب عنه, فترى شاعراً لايستحق هذه الكلمة كُتِبت عنه دراسات أكثر مما كُتِب عن المتنبي, وهذا ـ في رأيي ـ نوع من الفساد الذي يجب كشفه, وتعريته، ووضع حدٍّ له، لأنه ينتج نقداً ضالاً ومُضَلِّلاً للقارئ في آن معاً.
ولو نظرنا إلى مايكتب من نقد في معظم بلدان العالم, لوجدناه دليلاً للقارئ , فكم من الكتب وصفها النقاد بالقوة أو الضعف, بالجودة أو الرداءة، فكانت كما وصفت حقاً, وكذلك أقوالهم في الفنون الأخرى.
وليت مثال ماذكرت من نقد مُزَيَّف مُضَلِّل, يرقى إلى مستوى ذلك النقد العالمي, ليكون الناقد قاضياً عادلاً يحكم على الآثار المنقودة، أياً كان نوعها, بنزاهة وموضوعية تقف خلفهما ثقافة غنية واسعة تؤهِّل الناقد لخوض هذه الصَّنعة العسيرة.

د. موفق السراج

المزيد...
آخر الأخبار