للعدالة عيون حجرية صارمة , تقيم ميزانها على وقائع قد تكون خادعة أو ملتبسة , وتنزل قصاصها دون أن تأخذها شفقة أو رحمة ,وفي امتحان عسير ,تصبح هي الخصم والحكم والمسبب بالجريمة , هذا ما قاله صناع فيلم قاع المدينة .
قصة توصف الواقع …
فيلم قاع المدينة مأخوذ عن قصة للكاتب الكبير د يوسف إدريس الذي قدم أدباً واقعياً يحاكي أناساً بسطاء عصفت بهم جبروت أوصياء المجتمع و الحياة ,يوصف الواقع المثقل بالبؤس والشقاء ,حاول جاهداً أن يكون محامي الدفاع عن شريحة كبيرة من المجتمع المصري تغوص في الوحل والفقر والرذيلة ,أمسك العدالة متلبسة بالجرم المشهود وهي تشارك في دفع البعض لممارسة عدة جرائم منها جريمة البغاء .
سيناريو برؤيا واعية
لقد كان السينارست أحمد عباس صالح أميناً ومبدعاً لأدب د. يوسف إدريس ,قاع المدينة تسبر أعماق المجتمع المصري بكل ما يحمله من مأساة يومية ,فكثف أحداثها وقدم حوارات تحمل الرشاقة وتوصف الأنين الخفي المستتر خلف صدورهم .يحكي الفيلم عن القاضي عبد الله بيه (محمود ياسين) ينتمي لطبقة متوسطة ,استطاع أن يرتقي في سلم القضاء ليصبح قاضياً ,يبحث عن الحب كي يتوجه بالزواج ,فيقع في حب نانا (نيللي )وهي تنتمي للطبقة الارستقراطية ,تعيش حياتها بكل مجون واستهتار بالقيم الشرقية ,ويجاريها قليلاً في ممارسة أجوائها الباذخة الفاسدة ,تقبل حبه من طرف واحد وترفض مجرد فكرة الزواج ,لأنها ترفض القيود كما تقول له . وأثناء لقائه مع صديقه (جورج سيدهم) الذي يشير إليه بأن يجلب خادمة للبيت ويمكنها أن تؤدي وظيفة الخادمة والعشيقة ,ورغم رفضه لهذا المنطق الوضيع ,إلا أنه ينفذه مستعيناً بحاجبه فرغلي (توفيق الدقن ) ,فيحضر له امرأة هي أم لثلاثة أولاد صغار ,أبوهم شبه عاجز , هي شهرت (نادية لطفي) من أسفل القاع تعيش ببؤس وحرمان ,تعمل في بيت القاضي عبد الله بيه ,ويغدق عليها بعضاً من المال والطعام ,وعندما يعتدي عليها (جنسياً) تخرج وهي تحمل عارها دون أن تقوى على التقدم بشكوى ضده ,بتهمة الاغتصاب ,ولا تقوى أن تبوح لأحد بنكبتها , وبعد أيام وهي تواجه بؤسها وعارها ,تضطر صاغرة أن تعود لخدمته (خادمة وعشيقة) وتسرق من منزله ساعة يد , فيحضر لمنزلها ومعه صديقه منتحلاً صفة شرطي , صديقه (جورج سيدهم ) عندما يرى بيتها الذي يشبه زريبة للحيوانات , يخلع بزة الشرطي ويتركه وحيداً يطبق قانونه الجائر ,وعندما أيقنت بأنها غارقة في مستنقع الرذيلة تحترف البغاء ,وأثناء محاكمة فتاة من بنات الهوى, ينظر إليها بألم مستحضراً وجه شهرت (نادية لطفي) التي حولها من أم لأطفالها إلى خادمة ومن ثم إلى عاهرة ولصة,فما كان منه إلى أن تقدم بطلب استقالة إلى وزير العدل .
لقد تألق السينارست أحمد عباس صالح في تقديم شريط سينمائي يحمل نبض شريحة تتألم بصمت دون أن يدري أحد كيف يتم سحقهم دون أن يرف جفن ,والقاضي عبد الله بيه هو المجرم الأول في دفع شهرت لجحيم البغاء , واكتفى بأن قدم استقالته دون أن يفعل أي شيء يكفر عن جرمه أو يغير من تلك المعادلة الظالمة .
أداء راقٍ
الفنان الكبير محمود ياسين قدم سمواً بالأداء فقدم شخصية القاضي عبد الله بيه بتفاصيل تحمل الكثير من الحميمية , الفنانة الرائعة نادية لطفي قدمت دوراً من أجمل ما قدمته للشاشة الفضية (رحمها الله) توفيت منذ أيام , الفنانة نيللي برعت في شخصية نانا , الفنان الكبير توفيق الدقن نسج دوراً مغايراً لتاريخه الفني المتخم بأدوار الشر ,الفنان جورج سيدهم بخفة ظله قدم دور الصديق بمسحة كوميدية .
إخراج بعيون مختلفة
وراء هذا الشريط السينمائي مخرج ذو خبرة كبيرة وللأسف قدم أعمالاً كثيرة تجارية ,وهي التي وسمت تجربته بالتسطح وأحياناً بالابتذال ,ولكن بهذا الفيلم حاول أن يقول لنا: أنا قادر أن أبدع فيلماً يحترم عقل المشاهد , إنه المخرج حسام الدين مصطفى ,قرأ السيناريو بعيون مختلفة عن تجربته السابقة فأبدع في رسم الأجواء والشخصيات بشفافية مذهلة . محمد أحمد خوجة