خرج من منزله صباحاً مرتدياً معطفه ، وقبعته الصوفية على رأسه ..
يمشي الهوينا ، حيث كانت رياح الخريف شديدة البرودة ، داعبت أوراق الأشجار الصفراء فتناثرت على الأرض وأرصفة الشوارع .
تابع سيره على الرصيف الممتد من منزله إلى المكتبة التي اعتاد أن يسير إليها يومياً ليشتري الصحف ..لأنه يهوى المطالعة ومتابعة كل ما كتب فيها من أخبارٍ ثقافيةٍ و إجتماعيةٍ فهي تؤنس وحدته في رحلة أيامه المجروحة ..
أخذ الصحف من البائع وضغط عليها بيده وكأن العالم كله معه ..
عاد إلى منزله ..لم يكن بالمنزل غيره ..زوجته توفيت ..وأولاده كل راح إلى غايته وشأنه .
دخل غرفته ..جهز ما يلزمه من الشاي والسجائر والمذياع الذي شاركه عمره .
جلس مع صحفه اليومية يتصفحها ويقرؤها بهدوء ..بدأ بقراءة العناوين ..
مرّ امام ناظريه إعلان في زاوية الصفحة لفت انتباهه ..لم يصدق ما رأى ..! لقد كتب بالخط العريض .
( افتتاح معرض الرسم للفنانة التشكيلية ثريا )
أعاد قراءة الإعلان . . مرات .. و مرات ..ردد قائلاً ..
ثريا ..يا لهذا الاسم الجميل !. منذ زمنٍ لم أسمع به ..وصداه لم يطرق سمعي ..!.
منذ زمن بعيد .. سكن قلبي و فكري .. لم تمحه الأيام أبداً ..
إنها ثريا .. ثريا الصبية الجميلة التي عرفتها منذ زمن لا أذكر تاريخه . لكنني لن أنساه أبداً . هي ماثلةُ أمامي في كل يومٍ ووقت .
أشعل سيجارته وارتشف كأس الشاي الذي أمامه وهو يبتسم لهذه الذكرى الجميلة… أخرج من جعبة الذاكرة ما مرّ معه طيلة حياته ..من ذكريات بحلوها ..ومرها .. وهو يمسح دمعة سقطت من عينيه بلا إرادة قال:
– أنا اليوم في الخامسة والستين من عمري ..لكن هذا الاسم وضعني في دائرة حلم جميل عشته منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً ..
-كان الشتاء كانونياً يوم التقيتها مصادفة وأنا في طريقي إلى الجامعة .
وكانت هي طالبة في كلية الفنون الجميلة ..تعودت أن ألتقيها كل صباح ورذاذ المطر يهمي على شعرها الكستنائي الناعم فيبلله ..تبتسم وتمد لي كفاً بيضاء وتصافحني ..أنظر إلى وجهها المشرق وابتسامتها التي كانت تضيء دربي فأرى الدنيا تضحك لي ..والنجاح والتفوق يسيران أمامي ..أقول بيني وبين نفسي :
-نعم .. إنه الحب الصادق ..الحب ليس رحلة ممتعة ..ولا رقصة مبدعة . بل لحظة إلهية أحيا بها ..
أسير إلى جانبها . وندخل الجامعة سوياً ..
إنها ثريا .. الاسم الذي أضاء عمري وأيامي سنوات ..لكن لماذا افترقنا ..؟
ما أصعب أن نفارق من نحب .. في الوقت الذي يتألق فيه الحب لأبعد مدى.
ارتشف كأس الشاي الذي أمامه ، وملأ غيره .. الإعلان الذي قرأه أعاده إلى أوقاتٍ جميلةٍ .
ـ حدّث نفسه وهو يعبّ دخان سيجارته بعمق ، ثم ينفث دخانها فتشكل ضبابة جمّلها كل ذكرياته ..
-كانت ترسم لوحات جميلة تعدها لافتتاح معرض للرسم عندما تتخرج ، ورسمتني في لوحة وأنا اقرأ كتاباً .. قالت لي :
– هذه اللوحة سوف أحتفظ بها للأبد . انظر . لقد كتبت خلفها إهداء لك :
أريدك أن تحبني إلى نهاية عمري ..لا تبتعد !.
ودعتني لحضور افتتاح المعرض : كانت اللوحة رائعة متميزة . لقد وضعتها في مقدمة المعرض ونالت إعجاب الحضور .
أنا لا انساها أبداً ، أنا لا أحلم ، و لا أطارد حلماً ، إنها الحقيقة ..هو حب صادق وفيّ.
( ثريا ) .. الرسامة الفنانة . مرهفة الإحساس .. شاعرة تقدر الحرف والكلمة ..
عشت معها طيلة أيام الدراسة الجامعية ..
تخرجت هي ..وتخرجت أنا في كلية الهندسة ، وبحكم عملي انتقلت إلى مدينة أخرى فابتعدت مؤقتاً بعد أن اتفقنا على الزواج .
ومع مرور الزمن ، انقطعت أخبارها عني .. عدت إلى بلدي وسألت عنها ..
قالوا :
تزوجت من رجل ثري ، وسافرت خارج الوطن .
أعاد النظر في الإعلان ..قال:
-الحمد لله عادت وسوف أحٍضر افتتاح المعرض .. بعد يومين سوف أذهب إليها وأراها ..حتماً مازالت تذكرني ..
وفي اليوم المحدد . أعاد النظر في شكله ، وهندامه ، وأناقته . نظر إلى المرآة وقال وهو يتحسس وجهه :
-لقد كبرت كثيراً ..هذا لايهم العمر تقدم بي .. وهي حتماً كبرت مثلي فعمرها يقارب عمري .رغم هذا الفراق سوف نلتقي .
استقلّ سيارته . وذهب إلى حيث المعرض ..
لقد كان صباحاً جميلاً لاينساه أبداً ..
دخل بهو المعرض تأمل اللوحات المعلقة على الجدران ..
هذه الريشة ليست غريبة عليه ..تناسق الألوان . الرسوم رائعة تكاد تنطق أرى بها لمسات حبيبتي .
ثم لفت انتباهه صورته التي تصدرت المعرض . قال :
-هذا شيء لم يكن بالحسبان إن هذه اللوحة لي أنا . نعم أنا . منذ ذلك الزمن وهي محتفظة بها..!
وهو في غمرة تأملاته .. دخلت الفنانة الرسامة ( ثريا) فاستقبلها رواد المعرض .
اقترب منها . وهو يقول بصمت :
-ثريا التي أعرفها قريبة الشبه منها ..هذه بعنفوان الصبا ..إنها قريبتها على ما أعتقد لكنني أرى بوجهها ( ثريا) التي عرفتها منذ عقود مضت .
سألها عن صاحب اللوحة ..كيف وصلت إليها !!.
أجابته باحترام :
-إن التي رسمت اللوحة جدتي الفنانة ( ثريا ) ، وهذا توقيعها وأنا حفيدتها . لقد أوصتني بهذه اللوحة كثيراً ، لأنها احتفظت بها طيلة حياتها . وعندما تخرجت في كلية الفنون الجميلة أعطتني إياها وقالت لي :
-هذه اللوحة أثيرة لديّ ..احتفظت بها عقوداً من الزمن . لأن صاحب اللوحة عزيز عليّ وصديقي . لقد فرقتنا ظروف فرضت علينا دون إرادتنا . ضعيها في معرضك علّه يراها ويتذكرني ..
صافح الفنانة ثريا ( الصغيرة ) وقال لها وهو يهم بالخروج :
-سنلتقي.. سنلتقي ..بلغي جدتك تحياتي ..! . .