بقلم محمد مخلص حمشو
من يمُر في زواريب الحارات القديمة يدهش لضيق ممراتها المتعرجة وارتفاع جدران بيوتها، لكنه لو دخل بيتا من تلك البيوت سوف يستغرب أكثر حين يرى روعة جمالها وانفتاحها من الداخل على فسحة سماوية يتوسطها بركة ماء نافورتها تثرثر بإيقاع تهيم في روعته مع سحر جمال الخضرة التي تحيط بفسحة الدار من أشجار كباد وليمون ونارنج والياسمين والفل والقرطاس. وترى غرف الدار التي تحيط بتلك الفسحة والتي تظهر الدار كأنها قطعة من الجنة مع أن جدرانها الخارجية المطلة على الحارة عالية كأسوار سجن كئيبة المنظر.
كان لعشوائية نظام بناء البيوت العربية وتراكبها وتداخلها أحيانا فيما بينها لكنه ومع ذلك كانت تراعي عدم كشف دار على دار “أقول” كان له تأثير بالغ في حركة جريان الهواء وخاصة في فصل الصيف وفي عز ارتفاع درجات الحرارة. وتعرف ذلك في حماه من أبنائها الذين كانوا يتسابقون للسباحة في نهر العاصي ويتبارون في التعلق بالناعورة والدوران معها أو القفز منها على علو شاهق في منظر ينعقد له لسان كل زائر غريب عن حماه دهشة ويقدر ذلك الخطر.
وأما الأطفال الصغار فكانت الأم أو الأخت تشطف لهم أرض الدار ينضحون لها الماء من البئر فتسفح الماء على الأرض وتتركها تسيل ولا تمسحها وكانت هذه لأرض غالباً من غير تبليط هي بما يسميه أهل ذلك الزمان “عدسة” اسمنت مصقول ناعم فكان التبليط والبلاط قديما ورسوماته القديمة البديعة وألوانه الزاهية سمه الغنى والبذخ لساكني الدار وأما بقية الناس فيعتمدون “العدْسة” وترى الصغار من الصبية قد خلعوا ملابسهم فمنهم من نزل بركة الماء في الدار وآخرون تزلَّجوا على بطونهم على العدسة في أرض الدار وتتعالى ضحكاتهم وصيحاتهم في مرح وفرح ويتعالى صوت الأم بأن ينتبهوا ويتفادوا شر الاصطدام برؤوس بعضهم في تزلجهم على الماء.
وهكذا يأخذ الجميع قسطهم من المرح والهرب من حر الصيف حيث لم يكن هناك مكيفات تبريد بعد.. ويشتد الحر ليلاً أحيانا وتقف نسيمات الهواء فتصبح البيوت من الداخل خانقة جدا ويصعب الرقاد في نوم هانئ، فيهرب الجميع للنوم في صحن الدار أو على السطح فتمد لهم الفرش وعليها تنصب أحياناً “الناموسيات” تفاديا للسع الحشرات التي تكثر في الصيف وغالباً ما تكون تلك الناموسيات من قماش رقيق كالشاش أو غربول مثقب بثقوب دقيقة ناعمة جداً تسمح بعبور الهواء.
وكان لابد قبل التوَّسد على الفراش أن نغسل أقدامنا وأيدينا وأوجهنا وكم كنا نستمع ببرودة الفراش ويأتينا صوت الأم أو الأخت مزمجراً لتنبه وتزجر كل من “يرمح” ويلعب على الفرش وينبش و يعبث بترتيب الشراشف والمخدات والأغطية. ولا أنسى عندما يداعب النعاس أجفاني وأنا أحملق في السماء الصافية والنجوم اللامعة والقمر المنير ويأتيني صوت أمي تصرخ بي “يا ملكوع إياك أن تعد النجوم لأنه سيطلع لك ثآليل على أصابعك.
وعبثا أحاول أن أفهم أين الدب الأكبر من الدب الأصغر والكرسي المقلوب في منظومة النجوم لكني أعترف بأني كنت لا أستطيع تصورها ويأخذني النوم في سبات عميق وأحياناً في هدأة الليل كنت تسمع عنين النواعير على العاصي وبخاصة كان سكننا في أول المرابط قريبين من ملجأ الأيتام فيأتيني الصوت جليَّاً واضحاً فيرتعش له قلبي الصغير خوفا وأعتقد أنه صوت عفريت العاصي أتخيل أنه ينهض ليلا من أعماق العاصي ويجلس على الناعورة ليسرق الأولاد المشاغبين حتى يأكلهم خرافه اكتشفناها كباراً فأرتعب وأدس وجهي وبقية جسمي تحت الغطاء وكم نتشاجر مع بقية الأخوة لشد الغطاء كل ناحيته ليستأثر به.
وترى خابية الماء “الزير” وكانت فوهتها مغطاة بشاشية وفوقها طاسة الشرب وأحينا بداخلها زهرة الفلة فتشرب منها ماء باردا لذيذا. وكانت ميزة نوم ارض الدار والسطح هي في متعة البرودة ونسمات الهواء المنعشة ليلا وبخاصة وجه الصبح انك تشبع النوم حقاً، لكن المزعج في نوم ارض الدار أنك تستيقظ باكرا لأن أشعة الشمس تبهر العيون فتهرب منها تحت الغطاء لكن لا فائدة ويأتيك صوت الأم هيا انهضوا صارت الدنيا الظهر لكننا نتقاعس عن أن نستيقظ حتى يأتيني صوتها الحازم كالرعد فننهض قائمين كالعساكر عند صوت العريف.
أيام وذكريات من عاشها لا ينسى روعة متعتها، وسكننا اليوم كالعلب الإسمنتية التي تتوزع كبقية مواد غذائية على رف في دكان بقال أو قل كعلب السردين فوق بعضها البعض في منظومة بناء الأبراج السكنية، وننام في حر الصيف على المكيفات إذا لم تكن الكهرباء مقطوعة. وترى بعضاً من البيوت لا تزورها شمسا ولا ترى قمرا …
أّحّن إلى الحارة.. إلى بيتنا العربي.. إلى الطفولة والتزلج على أرض الدار والنوم صيفا عليها ومنظر السماء والنجوم وقد ميزت فيها اليوم الدب الأكبر من الأصغر وسأعدها ولو سيطلع لي ثآليل .و..و..