رفات حبيبة . . قصة قصيرة

 
 
دار حول البحيرة .. مشى .. ثم وقف ينظر إلى صفحة الماء الصافية ..
كانت مصقولة كأنها المرآة .. حتى إن ذاكرته رسمت صورة حبيبته بكل تفاصيلها ..
على سطح مياه البحيرة .
فكر كثيراً .. ماذا يفعل وأين يجدها ..؟
أدار رأسه .. يميناً .. ويساراً .. ثم قال لنفسه :
 ما أجمل تلك التي أريدها ..! ولكن أين ألقاها وكيف ..؟
ثم مشى .. طار في السماء .. حلق  ارتفع فوق الغيوم ثم استوى في طيرانه ..
إنه يفتش عن ضالته .. يجب أن يجدها ..
 مرّ فوق البحيرات .. حط عند كل غدير ماء وجد على ضفتيه مجموعة   ( بجع) عله يرى بينها الحبيبة .
كم هو مهذب عندما اتخذ قراره هذا .. لكن قراره وعذابه محبب إلى نفسه!
فالبحث عن حبيبته شيء جميل ، وأن يجد ما يريد ، فهذا ليس مستحيلاً أبداً ..
لكن أين هي ؟
توقف قليلاً على رابية خضراء مزهرة ، ونظر إلى المدى الواسع البعيد ثم قال :
الطبيعة رائعة وكل ما حولي جميل وممتع ، وكل ما رأيت من البجعات جميل لكن تلك التي في ذاكرتي أجمل وأحلى .
مرت أيام وأيام .. وهو يبحث عن حبيبة..
ذات مرة طار.. حلق في الفضاء وهو يعلو ثم يهبط ، حتى رأى بحيرة واسعة كبيرة ..
نظر إلى البحيرة ، استغرب ما رأى.. صاح من أعماقه وهو يحط على سطح البحيرة .. إنها هي .. يا إلهي ! وجدتها .. إنني أراها ( بجعة) بيضاء كقطعة ثلجية ( بكر)  سقطت من السماء .
إنها هي .. أظنها تنتظر أحداً يؤنس وحدتها .. أنا هو .. نعم أنا ..
 لقد أتيت إليها سوف أقترب منها .. وأقف إلى جانبها .. يجب أن تراني وأحدثها ..
دنا منها قليلاً .. أدار رأسه ، نظر إليها عن قرب وسألها :
-أنت وحيدة هنا ..
تململت ورفرفت بجناحيها خجلاً ومشت .. لكنه اقترب منها .. وناشدها أن تتوقف قائلاً :
لا ترحلي .. إنني فتشت عنك زمناً ، فتشت عن ( بجعة ) أحبها ..
كيف عرفتني ! أنا أقيم هنا منذ زمن ..
أنت ِالتي أريد .. بحثت عنك كثيراً .. وأحمد الله وجدتك ..
تعالي .. نعيش معاً ونتزوج .. نتقاسم متاعب الحياة معاً حتى نهاية المطاف .
مالت بعنقها الأبيض ، وافتر منقارها البرتقالي عن ابتسامة تعني الموافقة .
اقترب منها وغطاها بجناحيه والتفت أعناقهما وكأنهما يعقدان قرانهما ..
ثم عزفا موسيقا ورقصا على صفحة الماء حتى الثمالة ابتهاجاً بالزفاف ..
همس في أذنها قائلاً :
حبيبتي  وحدي .. هنا سوف نقيم معاً .. ننعم بالهدوء وراحة البال … ننتشي بجمال الطبيعة وسحر الوجود .
تتالت فصول السنة .. وجاء الربيع .. بدأت أسراب الطيور تغادر وتهاجر بكل أنواعها ، تهاجر مغادرة أماكنها .. وقف على الرابية وقال لها :
-انظري .. بدأت الطيور تهاجر .. ما رأيك إن مرّ سرب البجع من هنا .. نغادر حيث يغادرون .. فالوحدة قاتلة وقد مللت هذه الوحدة هنا .. تعالي نغادر حيث يغادرون .
 لا أنا أحب هذا المكان عشت فيه زمناً .. أنا وحدي هنا ولا أحد يزعجني هذا مكاني .. وأرضي .. وبحيرتي ..
-لكن نحن وحدنا هنا .. ولا أحد يؤنس وحدتنا كما ترين ..!
-غداً إن حطت أسراب البجع هنا في البحيرة ارحل معهم إن شئت فأنا أنتظرك حتى تعود .
-نعم سوف أفعل .. لكن أفضل أن تكوني معي ..
-لا .. أنا أنتظرك مهما طال غيابك .. وأنا واثقة أنك سوف تعود ..
مع إشراقة شمس ربيعية دافئة حلق في السماء سرب ( بجع) .. أسرع ووقف قرب البحيرة .. رفع رأسه .. رفرف بجناحيه .. قفز .. كأنه يشير إلى السرب أن يحط .
حط السرب في البحيرة .. سبحت طيوره .. وغنت .. ورقصت .. ثم طار معهم مودعاً الزوجة الحبيبة على أمل العودة .
انتهى الربيع .. ومرت فصول السنة كلها ، ولم يعد الزوج الحبيب الغائب
وكانت البجعة الوفية كل صباح تقف قرب البحيرة تنتظره .
لم يأتِ .. ربما يأتي في الغد .. أو بعد غدٍ ، إنه وعدني .. إنه ليس متخاذلاً
ولا جباناً .. هو وفي .. صادق لقد قال لي : سأعود انتظريني !.
لقد اشتقت إليه كثيراً ، وسوف أنتظره .
حزنت ( البجعة) حزناً عميقاً لفراقه وبُعده .. عافت نفسها الطعام .. والشراب .. حتى البحيرة التي تربت بقربها لم تعد تعني لها شيئاً .. ولم تقربها .
كانت تودع غروباً وراء غروب ، وتعد فصول السنة باليوم ، والأسبوع ، والشهر قالت :
لقد اقترب الربيع وغادرني في الربيع .. إنه غائب منذ عام .. كم طال غيابه .. لكنه سوف يعود .. إنني أشعر أنني مريضة جداً .
 مشت متثاقلة الخطا .. متعبة .. وجمعت من الرابية التي كانت تجلس عليها مع زوجها بعض الزهور .. حملتها بمنقارها وعادت إلى بيتها الصغير .. زينت بها الباب ووضعتها على الجدران .. احتفالاً بقدومه .
جاء الربيع يحمل معه الحب والعطاء للعالم أجمع ..
 استعدت أسراب البجع للهجرة .. وعزم على الرحيل الحبيب المهاجر .
حمل لها بمنقاره زهرة حمراء جميلة .. طار بها مسافة لا يعرف مداها ..
 قال لصديقه :
تلك الزهرة تعبر عن شوقي وحبي لها .. سوف أضعها على رأسها الجميل الأبيض
كم اشتقت إليه ..
حط السرب رحاله قرب البحيرة .. مشى إليها مسرعاً .. ناداها باسمها .. فتش عنها بين الأعشاب وبين الزهور المنتشرة على الرابية .. صاح من أعماقه ..
أين أنت .؟ لقد أتيت إليك حبيبتي ..! لكن ما من مجيب !
تأثر كثيراً وتساءل : هل جرى لها مكروه في هذه المنطقة الخالية النائية .؟
 أسرع إلى البيت الذي تقيم فيه فشاهد بقايا ريش أبيض تناثر هنا وهناك على الأعشاب تلمس الريش الأبيض ، إنه ريشها .. دخل البيت الصغير الذي بناه معها ..
رأى الزهور التي جهزتها لاستقباله قد جفت وصوحت .. نظر إلى الأرض وصاح من أعماقه .. إنها هي .. لقد ماتت … وهذا رفاتها ..
 آه .. ما أغباني .. كيف تركتها وحدها ..
أزاح رفاتها .. وجثا بقربها حتى انتهى كما انتهت ..
رامية الملوحي
المزيد...
آخر الأخبار