من مرافىء الذاكرة المَنزول

 
 
ما ان تنتهي من صعود عدّة درجات حجريّة حتّى تدلف إلى غرفة كبيرة        -أوضة – مبنيّة من الحجارة والطين ومسقوفة بالخشب والقصب وبقايا الحصيد ، جدرانها عريضة مطليّة بالحوَارة ، نوافذها خشبيّة طويلة، فُرشت ارضيتها بالسجاد واللباد والبسط الملوّنة المصنوعة يدويّاً، هذه الغرفة التي تتوسط القرية كانت تُسمّى «المنزول »يجتمع بها رجال القرية يومياً وخاصة في السهرة، يتبادلون الأحاديث ويناقشون مختلف قضاياهم ،في الزراعة والفلاحة والبذار ومواسم الحصاد، وتربية المواشي،و…. ارتبط المنزول بمختار القرية فهو شخصية اعتبارية له حضوره ووزنه الاجتماعي، كلمته مسموعة ويؤخذ برأيه ،يشكل هذا المنزول منبراً مفتوحاً لأهالي القرية ، فيه يتبادلون الأحاديث ويمضون السهرات ويعبرون عن ذاتهم وآرائهم. وأفكارهم ، كما يُعدّ مصدراً مهمّاً للمعلومات والأخبار والأحداث ورافداً أساسياً للمعرفة في ظل انعدام أي مصدر آخر. يتناول روّاد المنزول الشاي والقهوة المرّة واحياناً المتّة، في المنزول مذياع «راديو » يعمل بالبطاريات الجافة ،يرفدهم  بالأخبار والأغاني، وبعض البرامج الترفيهيه المُسليّة …
كان « المنزول » عالماً خاصاً متفرّداً، فيه الالق والدفء والحميمية، فيه تُحلّ المشكلات و المعضلات وتتصافى القلوب،  وتتقاطع الرؤى  ،فيه الفائدة
 والمتعة والتسلية وتبادل الاراء والأفكار، وحيوية هذا المنزول تتبدى من خلال حيوية المختار اولاً ومن حيوية الحضور ونقاشاتهم ثانياً. 
كما كان مقصداً ووجهةً لكلّ زائر ٍ أو قاصد ،ٍ أو عابر سبيل ،او جهة رسميّة، ومصدراً موثوقاً للمعلومات. 
 لذلك نجد صاحب المنزول «المختار » يتّصف بالكرم والشجاعة ورجاحة العقل وسداد الرأي وروح المبادرة،  وهذا يشكل عامل استقرار وأمان للقرية وأبنائها.
كنا ننظر لهذا المنزول ونحن صغار بشيء من الرهبة كونه يضم رجال القرية الكبار، كنا نلحق بآبائنا علّنا نرمق ما بداخله من جمالٍ وبهاء وننتظر أي فرصة مواتية لولوج هذا العالم الجديد .
في قريتنا قصر ابن وردان ،وقبل اكثر من أربعة عقود  ، لن ننسى منزول «ابو وجيه » بدرجه المرتفع ،وإطلالته الجميلة،  ،وحجارته الزرقاء حيث يجاور مدرستنا الإبتدائية وملاعب طفولتنا البريئة، والمدى الواسع لاحلامنا، وما يتمتع به هذا الرجل من ذكاء وفطنة وحكمة ومعرفة وكرم، وهذا ساتناوله في زاوية لاحقة، وكذلك منزول «ابو محمد ياسين » وسط القرية ،بطيبته ومحبته ،وجميل ملقاه …..
اليوم مع كل هذا التطور والتقدم ما زالت ذاكرتنا تحتضن صوراً بكامل ألقها، صوراً بديعة لاناسٍ يتصفون بالبساطة والعفوية، بالذكاء والفطنة بالرغم من انهم لم يدرسوا في مدرسة أو جامعة، شكّلوا فيما مضى نقاطاً مضيئة،وعلامات فارقة في قراهم ومجتمعهم، وبنوا بعفويتهم وصدقهم. وإيثارهم ومحبتهم للآخرين اجمل العلاقات الإنسانية  والاجتماعية، والتي كانت صمام الأمان لكل أبناء القرية في حياتهم ومستقبلهم.  
*حبيب الإبراهيم
المزيد...
آخر الأخبار