قصة قصيرة .. بسمة أمل 

 

ابتسم .. وهو ينظر من نافذة الطائرة متأملاً المدينة التي بدأت ملامحها تتندى في النور ..

في هذه المدينة كان يشعر بطعنة قاسية في قلبه ، لم يكن سعيداً أبداً رغم أنها مدينته حيث يوجد من ينغص حياته ويؤلمه . 

تراءت له حبيبته خلف أبعاد المسافات تلك التي كانت طيفها يعفو على صدره بوداعةٍ و اطمئنان فيشعر بالأمان و الراحة .

همس دون قصد اسمها ( أنسام ) .

( أنسام ) حبيبتي أرى وجهك الجميل أمامي وابتسامتك الساحرة التي أضاءت أيامي تطل علينا بين الغيمات .. هبطت الطائرة أرض المطار كانت ( أنسام ) بانتظار ( هيثم ) ، اقترب منها ضمها لصدره بلهفة و شوق . . وبأحلى وشوشات الغزل تمتم في أذنها : 

اشتقت لك حبيبتي .. تعالي معي لمنزلنا .

دخلت المنزل معه سمع ضحكة بصوت مرتفع تردد صداها في الغرفة لم يأبه لذلك إنها ضحكة أخاه ( أيهم ) . . اقترب ( أيهم ) و ألقى عليه التحية ثم اختلس النظرات إلى ( أنسام ) و قال لها : إبتسامتك جميلة لذلك قررت رسمك في لوحةٍ فنية ٍ .. ما رأيك ..؟ 

رمقه ( هيثم )  بغضبٍ لكنه استمر في لامبالاته و استأذن بالانصراف .. تململت ( أنسام ) و استغربت مما جرى ، و أفكار شتى تتنافر في رأسها و هي تحدث نفسها : 

هل أقوى على الاستمرار مع (هيثم ).. !!؟ الفرق واسع بين الأخوين . 

وجه ( أيهم ) وقامته ممشوقة الممتلئة رجولة تثيرني و تجذبني إليه ، منذ زمن يحاول إبعادي عن ( هيثم ) و يتقرب مني .. ما هذا العذاب الذي احترق فيه كلما رأيت ( أيهم ) . . لكن نظرات ( هيثم ) الثاقبة قادرة أن تمزق قناعي بسهولة حتماً ستحدث مأساة و لن اسمح بذلك .. لن أضعف سأقاوم إغراء ( أيهم ) .

( هيثم ) أحبها منذ ايام الدراسة الجامعية و بادلته مشاعره .. فهو هادئ حنون مهذب لكنه ذو إعاقة في رجله وهذه الاعاقة جعلته أقوى و غرست فيه الكثير من الصبر و الحكمة .

( أيهم ) الأصغر حيوي نشيط بروحه المرحة ووسامته يملك فن خاص في إغراء الأنثى .. هذه المتناقضات سكنت في ذاكرتها وجعلتها في حيرة لكنها في قرارة  . . لكنها في قرارة نفسها رددت : 

( هيثم ) .. إنسان طيب صادق في حبه شهم لن ابتعد عنه سأبقى معه مدى عمري.

ذات مساء دعى ( هيثم ) ..  ( أنسام ) لترافقه في سهرة للأصدقاء لكنها فوجئت بقدوم ( أيهم ) .. ارتبكت و نظرات ( هيثم ) تتبع تصرفاتها ، شعر في هذه اللحظة في هذه اللحظة أنه أشقى الناس و دونهم .

أمعن النظر في كل الحضور و حدث نفسه :

( أيهم ) .. هنا .. ! يا لهذا القدر لماذا  يقف مني موقف العدو ونحن أخوة !!.. انسابت الموسيقى برتابة هادئة كحفيف ثوب غجري .. 

تقدم ( أيهم ) و استأذن من هيثم ليراقص ( أنسام ) .

كانت عيون ( هيثم ) تنظر إليهما من خلال أمواج دخانه الكثيف  بالحقد و الغيرة و تنال من عقله و فكره ، و هو ينظر إليها و هي تتمايل بين يديه فيزداد تعاسة و ألم لأنه رهين إعاقته التي أبعدته عن كل ما هو جميل و ممتع . 

اقترب منه أحد أصدقائه ليجالسه و كان يراقب المشهد بدقة و استغراب قال له : 

( هيثم ) . . هذه كأسك الرابعة ..! 

و لتكن الخامسة يا صديقي .. فهو ينسيني الواقع الموجع . . دعني احتسي كل الكؤوس هذه .. الوجع يحتضر في كياني و يلفظ آخر أنفاسه في عيوني ثم نهض و اقترب من ( أنسام ) و جذبها إليه ثم خاطبها بصوت عالٍ حمّله كل آلامه و همومه . 

( أنسام ) .. وجعي ليس في قلبي و إعاقتي .. وجعي بك أنت بقدر ما أحببتك .. أصبحت غريبة عن قلبي و تفكري لأنك لم تفهمي معنى حبي لك . 

تجاهلت كل ما حدث و عادت لتجلس معه و هو غارق في صمته و آلامه التفت إليها :

هل تذهبي ؟ .. إنني مرهق جداً .. 

لا سأبقى مع ( أيهم ) ثم يوصلني خرج مسرعاً متكئاً على عصاه و الأضواء الملونة تعربد على ملامحه و هذا الضوء الأصفر الممتد يرعبه أكثر من كل الألوان و يمتص شحوبه الأصفر النازف .

الاشاعات تكبر .. و ثرثرة الأهل و الأصدقاء تعزز الشك باليقين حول علاقة

 ( أيهم ) و ( أنسام ) و تناثرت فقاعات الخيانة فصرخ من أعماقه .. لا .. لا أصدق ما يقال و ما حصل .. مستحيل .. !! 

ذات مساء لا ينساه أبداً اتصلت به ( أنسام  ) و حدثته بلهجة قاسية لم يكن يتوقعها أبداً . 

( هيثم ) . . لن أخدعك إني بدأت أحب ( أيهم ) أكثر .. ومشاعري تتجه ( لأيهم ) .

أهذا قرارك ..!؟.

أجل ..

لكن لماذا ابتعدت ..؟ و تركت حبك يقامر على مائدة اليأس و الغدر.. عودي إلي و لن يهرب الزمن بك .. 

أغلق الهاتف .. خرج من المنزل.. مشى كثيراً . . ضجت الشوارع بوقع عصاه الغاضبة على الأرض . . حاول أن يحطم عصاه رغم أنها مطواعة حنونة .. عاد إلى منزله و هو يحدث نفسه : 

هل اخترت اعاقتي أنا ..؟ لقد أحبتني ( أنسام ) كما أنا .. !! 

اقترب من والديه .. لقد عاشا مأساته منذ طفولته و القنوط و الحزن يسيطر عليهما .

نظر إلى أمه و عاتبها ..

أمي لماذا أنا معاق هكذا ..؟ و كيف حصل ذلك ؟ ! 

والدي انظر إلي من يعيد النبض لرجلي المشلولة . ؟
( هيثم ) كن قوياً و لا تضعف سوف أراسل لك مشاهير الأطباء و هذا ليس صعباً في هذا الزمن . 

دخل غرفته و استلقى على سريره مر أمام ناظريه شريط ذكريات طفولته بأحلى صورها .. 

قال كنت منذ زمنٍ في حركة دائمة أركض و ألعب الكرة مع رفاقي .. أشارك في الانشطة المدرسية.. كنت و .. كنت . وكيف انا الآن .

 أغرق وجهه بوسادته ؛ و بكى بحرقة ثم أمسك الهاتف الجوال و كتب لها رسالة اختزل فيها الكثير من العتاب : 

( أنسام ) إن المرأة المزيفة في مجتمعنا تضمن للرجل حفظ المظاهر لكنها لا تضمن له الصدق و الحب وكم كنت مخطئً عندما وجدت فيكي صورة المرأة الرائعة الكمال .

ردت عليه : ( هيثم ) عندما أحببتك كان ذلك بصدق  و بلا تخطيط ولا هدف .. ربما لأني أعشق المستحيل في الحب . 

تمرد قلبه في انتفاضة مكتومة قاومت رغبته لقراءة الرسالة . ثم قرأها مرغم .. إنه في دوامة مغلقة لا مخرج منها .. لم يعد يستطع الكلام .. اختفى صوته في حرقة الصدى ربما رأى نفسه بلا صوت . . بلا معنى . . لأنه اكتشف خيانتها له . ردد و هو يسند رأسه على وسادته أنا الآن سعيد في وحدتي و ببعدي عنك . . أنا لا أستطيع أن أرى تكرار مشاهدة الممثلين على مسرح الخيانة ثانيةً . 

أخرجه من حيرته و آلامه نقرات خفيفة على باب المنزل . . أسرع و فتح الباب وقف مندهشاً . . فتاة جميلة بغاية الأناقة يبدو عليها الرقة و اللطف قال لها : 

أهلاً و سهلاً بك .. تفضلي ..!

هل عرفتني .. ؟ 

لا .. !

أنا أعرفك .. أنت ( هيثم ) .. أليس كذلك .. ؟

نعم .. تفضلي .

دخلت و سلمت على أهله . . ثم التفتت إليه .. 

( هيثم ) أهلي و أهلك أصدقاء .. وجيران منذ زمن .. وأنت و أنا أصدقاء منذ الطفولة و أيام الدراسة . . هل نسيت .. !!

ثم تابعت حديثها معه .. 

أنت لم يتغير وجهك و ملامحك .. ابتسامتك هي ذاتها كما عرفتك .. أنا رغم البعد لم أنساك أبداً . . 

نظرت إليه باستغراب . .

 ( هيثم ) أراك ساهماً صامتاً هل تذكرني !!.. أنا ( ناديا ) . 

التفتت إليها و كأنه عاد بذاكرته إلى أعوام مضت : 

أجل تذكرتك جيداً .. أنت ( ناديا ) صديقة الطفولة و الصبا .. تحدثا كثيراً ومن خلال حديثها معها عرف لماذا ابتعدت و لم تعد تزورهم .. لقد سافرت و أكملت تخصصها خارج الوطن ثم تزوجت و هذا سبب بعدها و هي الآن مطلقة . 

تكررت زياراتها .. و قد تقرب منها أكثر و شعر بأن خيطاً واهياً أبيض يجذبه إليها .. أحس بطعنة الزوج الغادر الذي تركها و تزوج من أخرى .. فالمشكلة واحدة .. و الحزن و الألم يوحد البشر و يجعلهم أكثر إلفة و جعبة الذاكرة احتفظت بذكرياتهم كلها .. طفولتهم و مراهقتهم و جلساتهم البريئة مع الأهل ثم ابعدتهم الظروف إلى حين التقيا ثانية بعد سنوات .. فالعلاقة الصادقة الوفية لا يمحيها البعد أبداً . 

تمتمت ( ناديا ) و هي تنظر اليه متفائلة .. 

أشعر بغصةٍ مؤلمةٍ تخنق مشاعري .. 

ترى هل أكتب له .. أم أحدثه .. ؟ .. لا سوف أحدثه عن أحاسيسي نحوه فالحديث الصادق يخرج من القلب إلى القلب. 

كتبت له ( هيثم ) . . في اللحظة التي التقيتك بها كنت بحاجة إلى إنسان يعيدني إلى منابر النور .. بحاجة إلى حبيب و صديق له حق الخطأ و الضعف و القوة و الجرأة ..و كنت أنت .

ذات صباح مشرق لا ينسى اشراقته أبداً .. اتصلت به ( ناديا ) و قالت له : 

( هيثم ) أعرف طبيب زميل لي منذ أيام الدراسة الجامعية حدثته عنك و حددنا موعد لزيارته .. أرجو منك أن تسدل الستار على الماضي بكل أبعاده ومآسيه .. و علينا أن نبدأ من جديد .

كلمات ( ناديا ) الشفافة المفرحة فتحت نافذة أمل أمامه رأى من خلالها كل شي في الوجود يضحك له و يهنئه والداه و لم تسعهم الدنيا من الفرحة .

( ناديا ) الدكتورة الحبيبة و الصديقة الوفية انتشلت الشاب هيثم من بئر أحزانه إلى حياة جديدة مفرحة .. بعد أشهر قليلة من العملية تعافى ( هيثم ) و انتصبت قامته بشكل طبيعي .. و شفيَّ .

تراءى له وجه ( ناديا) الحبيبة يفيض رقة و عذوبة .. مهنئة بالسلامة و نجاح العملية.

أمسك يديها و قبلها .. أحس بدفءٍ صادقٍ و هو يقبض على أمتن الصلاة الإنسانية في أمل مشرق و أحلام هادئة نسجت حكاية حب صنعها قلبه و عقله لا خياله قال لها :

تعالي حبيبتي .. نسكن أنا و أنت تحت ظلال شجرة الزيزفون ليغمرنا عبيرها فنثمل من خمرتها .

رامية الملوحي – صيف 2021

المزيد...
آخر الأخبار