في القاعة المكتظّة بطلبة الفنون الجميلة وتحديداً في محاضرة البروفيسور الإيطالي (فيتالي) تتدافع أصوات الهرج والمرج بيننا، وكلّ منّا يأخذُ مكانه أمام المرسم الخاصّ به والمزوّد بكامل عدّته.. البروفيسور(فيتالي) شخصيّة محبوبة للغاية، ننتظرُ محاضرته أسبوعيّاً بشوقٍ كبير، فعلى الرّغم من ابيضاض شعره وذقنه إلّا أنّه مايزال محافظاً على هيئته الإيطاليّة من قوام جسده الطّويلة إلى اسمرار بشرته بالإضافة إلى أناقة الهندام ولياقة الحركة ولباقة الألفاظ، ويبقى الغرور الرّشّة الأخيرة المتناثرة على كلّ ملامحه.. يدخل القاعة وقد اختلط دخان غليونه ببياض ذقنه وشعره الطّويل وكأنّه خُلِقَ هكذا.. يلقي تحيّته علينا ويبدأ:(ـ اليوم سنرى كم يحتاج الفنّان التّشكيلي الحقيقي من جرأة كي يصافح النّجاح والتّفوّق بيديه الاثنتين). ثمّ يبدأ مشواره بيننا وكأنّه طبيب نفسيّ أكثر منه فنّاناً.. يدرس بعينيه الصّغيرتين ومن وراء نظّارة أصغر ردّات أفعالنا على ما يقول:(ـ نحن الآن نعمل وندرس معاً.. من لديه الجرأة ليكون التّمثال العاري الّذي سيقف على المنصّة ويجعل من جسده نموذجاً للرّسم الحيّ.. سيحصل على نفس العلامة الكاملة مع من سيرسمه بإتقانٍ ونظرةٍ خاصّة؟؟..من..؟) يهدأ المكان فجأةً.. ثلاثُ دقائق تقريباً ويعلو صوت أحد الطّلّاب:(ـ بروفيسور.. التّماثيل العارية كثيرة وموجودة في كلّ مكان من زوايا الكلّيّة لمَ لا نستعين بإحداها؟؟)..(ـ أريدُ تمثالاً حيّاً .. التّفاصيل الدّقيقة تهمّني ولن أجدها في الحجارة.. أريدُ تمثالاً حيّاً وذكراً تحديداً).. تتبادل الفتيات الضّحكات والنّكزات ومنهنّ من خبّأت وجهها وراء مرسمها خجلاً.. يعود البروفيسور ليقول:(ـ هل أختار أنا؟.. أم أترك لأحدكم النّخوة والمروءة والشّهامة والعلامة الكاملة..؟).. ثوانٍ.. ويقوم معبود الفتيات المغرور:(ـ سأكون التّمثال الحيّ بروفيسور).. يصفّق البرفيسور طرباً ويكاد يقبّل يديه.. يقف الشّباب مذهولين يحاولون منعه.. هول المفاجأة يصيب بعض الفتيات بالذّعر ، وبعضهنّ الآخر تصرخن مشجّعات .. بينما أنا المصدومة أتجهّز للرّسم.. لحظات ويخرجُ عارياً .. عارياً تماماً إلاّ من جماله ويقف كأنّه نجم هوليودي يستعدّ لاستلام الأوسكار..يبدأ الشّباب بذمّه ورمي الأوراق والألوان عليه فقد أهان رجولتهم على حدّ تعبير أحدهم.. تقع أكثر من أربع فتيات مغمى عليهن ويقع غليون البروفيسور ثلاث مرّات وهو يحاول ضبط ما يحصل .. تصرخ تلك الفتاة البدينة:(ـ ياشيخ؟؟ لم نكن نعلم أن جمالك الدّاخليّ يفوق جمالك الخارجيّ.. لعنة مزدوجة لأبي جهل وأبي لهب)…. الفوضى تعمّ المكان ، ولا تنفع محاولات البروفيسور في فرض الهدوء والتّركيز في الرّسم إلى أن قلت:(ـ لقد انتهيت بروفيسور) يصمت الجميع .. أحد الشّبّان ينعتني بالخائنة ويتوعّدني بالعقاب.. يقترب البروفيسور من لوحتي ، تتّسع ابتسامته ماإن يرى ما رسمت ثمّ يطلب منّي الشّرح(ـ ها هو زميلي بالكامل .. والتفاصيل الدقيقة رأيتها تماماً ولكن من خلال دخان الغليون) يربّت البروفيسور على كتفي ويقول :(ـ أحسنت .. لقد فهمْتِ جيّداً ما أردْتُ بالضّبط سأفتتح معرض نهاية العام بهذه الّلوحة).. يشتعل فارس أحلامنا غضباً لسماعه ما سيحصل للّوحة ويلحقُ بي بعد ارتداء ثيابه بالمقلوب وقد استطاع شعره الطّويل الّذي انسدل على كتفيه ان يزيد الطّين بلّة في دقّات قلبي .. أرتجفُ داخليّاً كلّيّاً عندما أمسك بيدي:(ـ أنتِ.. أين الّلوحة؟) ينتظر الإجابة .. ارتباكي شجّع أصدقاءه على الانتشار حولي كتهديد.. الصّديقات ينتبهن لما يحصل وينتشرن أيضاً متجهّزات للدّفاع عنّي:(ـ قلت لك أين الّلوحة ؟ لو كنت أعلم مسبقاً أنّها ستكون لوحة الافتتاح لما منحتك هذه الفرصة) يضغط على يدي بقوّة.. إحدى الفتيات استنجدت بالبروفيسور الّذي حضر مسرعاً وبيده الّلوحة:(ـ اترك زميلتك وشأنها هذه لوحتك خذها) .. يلتقط الّلوحة .. يراها.. يهدأ.. يعيدها للبروفيسور:(ـ آسف.. بإمكان الّلوحة أن تكون فاتحة المعرض).. ثمّ ينظر إليّ.. يتأمّل دموعي الّتي طغى صراخها على لعنة الصّمت المخيف الّذي انتشر.. يمسح دموعي بأصابعه ويقول:(ـ أشكرك وأشكر دخان غليون البروفيسور .. لقد كنتما أفضل فنّانين على الإطلاق)