في أحد الأزقة القديمة المتفرعة من سوق مدحت باشا تشدك أصوات المطارق الناعمة للحرفيين المجتمعين في ورشة للنحاس وسط فسحة بنهاية الزقاق تتوسطها شجرة عمرها 120 عاماً.
ووراء إحدى الطاولات الخشبية يجلس شيخ كار حرفة “تكفيت الفضة على النحاس” يوسف الحامض منكبا على عمله مستحضرا أدواته اليدوية البسيطة من مطارق حديدية خفيفة متعددة الأحجام وأخرى خشبية والسندان ومجموعة من الأزاميل والاقلام الفولاذية للحفر والتجويف إضافة لأقلام الرصاص للرسم ليبدع في صناعة تحف فنية في غاية الجمال.
الجهد الكبير ودقة الملاحظة والتحلي بالصبر عوامل أساسية لمن يعمل بمهنة تكفيت الفضة.. هذه الحرفة التي يراها يوسف الحامض مجالاً لتحويل الألواح النحاسية من قطع صماء الى تحف فنية ناطقة فهي من أصعب الحرف اليدوية التي اتقنها الدمشقيون حسب وصفه مبينا أنه ورثها مع اخوته أباً عن جد منذ 30 عاما وسيورث خبرته فيها إلى أبنائه لتشجيعهم على اتقانها والحفاظ عليها من الاندثار.
يروي الحرفي يوسف بحديثه لمندوبة سانا مراحل العمل التي تبدأ بقص ألواح النحاس الخام حسب الشكل المطلوب ثم رسم اللوحة الزخرفية على الورق “رسوم نباتية وزخارف هندسية أو خطوط متجاورة أو كتابة آيات قرانية وحكم بخط عربي” ليقوم بعدها بفتح سكة وخطوط على النحاس باستخدام أقلام الحفر الفولاذية والمطرقة ثم يملأ الشقوق بتركيب أسلاك الفضة بحرفية ومهارة ويدق عليها دقات متتالية لتأخذ مكانها الصحيح.
وأوضح يوسف أن سماكة سلك الفضة تتراوح بين 6 و8 دوزيمات تصطف بجانب بعضها لتشكل الرسم المطلوب وبعدها تدمج مع بعضها لتصبح من روح القطعة لينتقل إلى عملية “الريش” وهي رسم أشكال بقلم الرصاص على الفضة نفسها ثم الحفر عليها مشيرا إلى أن هذه المرحلة تأخذ وقتا أكثر من غيرها وتنتهي المراحل لدى المبيض أو النكال حيث ترسل الأواني المنزلية إلى المبيض الذي يقوم بدوره بدهن قطعة النحاس بطبقة من القصدير أما التحف واللوحات فترسل إلى النكال لتلميعها.
عشق يوسف للمهنة جعله يتفنن بتشكيل قطع تحمل الكثير من تاريخ وثقافة البلاد حسب وصفه بأنواع وأحجام مختلفة كالقدور ومناقل الجمر والدلال والفناجين والصحون والصواني ومصبات القهوة والمناسف العربية والحلل والاباريق بأشكال متعددة ك “الفاطمي والأيوبي والمملوكي والدمشقي والأندلسي” لافتاً إلى أن الحرفة لم تقتصر على الأواني المنزلية فقط وإنما شملت لوحات حائطية مزينة بآيات قرآنية وتحفا تذكارية شرقية وخناجر وسيوفا نحاسية يرغب باقتنائها الكثير من هواة جمع الأدوات التراثية.
وبالنسبة للنحاس الذي تتم عليه عملية تكفيت الفضة فهو نوعان الأحمر الذي يتحمل درجة حرارة أكثر ويستعمل في صنع الأواني التي تستخدم لحفظ الماء والزيت والأصفر الذي يستعمل بأدوات الزينة والديكور.
ويصف الحرفي يوسف مهنة تكفيت الفضة على النحاس بـ “حرفة الصابرين التي لا تتوقف فيها أنامل الحرفيين عن الإبداع” مستذكراً بدايات تعلمه الحرفة بمرافقته لجده ووالده في صغره وتعلم أساسيات العمل منهما ثم اجتهاده على نفسه ليصبح أكثر مهارة وحباً لها.
وكغيرها من الحرف التقليدية القديمة تعاني هذه المهنة من معوقات وتحديات حسب الحرفي يوسف منها صعوبة تأمين المواد الخام والمشتقات النفطية وقلة الأيدي العاملة من الشباب وخاصة أنها مهنة تحتاج للصبر والبال الطويل وفق تعبيره مشيراً إلى رغبته بإنشاء دورة تدريبية ضمن ورشته وعلى نفقته الشخصية لتعليم هذه الحرفة الدمشقية المعروفة والتي يجب دعمها خوفاً من اندثارها.
ويعد فن تكفيت النحاس وتطعيمه بالذهب أو الفضة من أهم وأصعب الحرف اليدوية ويحتاج إلى الصبر والدقة العالية بالعمل واشتهرت به على مدى التاريخ العديد من المدن العربية مثل الموصل وبغداد والقاهرة ودمشق التي ما زالت تحافظ على هذه الحرفة رغم الصعوبات التي تعرضت لها خلال السنوات الماضية.