لعل الفترة التي قضاها ( أحمد الصادقي ) أمام المرآة الكبيرة … يتأمل هندامه ويتمعن في زينته وأناقته , قد مرت بسرعة !. فابتسامة الدهشة التي رسمتها شفتاه حين نظر إلى ساعته , توحي بطول المدة وتجاوز الوقت .. والأخيران هما دفعاه إلى انتزاع نفسه من أمام المرآة ليسير مهرولاً نحو الباب .
ورغم أن الشارع العام مزدحم بمارته , مكتظ بأشيائه … إلا أن ذلك لم يجذب سمعه , ويخطف اهتمامه , ويسحر بصره الذي كان مثبتاً نحو الأمام …يقفز قبل قدميه , وينافس جسده في السير !.
والفكر , يسبق العين , يصور اللقاء , ويعطي شريطاً متصلاً من أحداث المستقبل المتوقعة : كيف سيحرك عينه باحثاً عن باب الشقة , ثم كيف سيضغط بأنمله على الجرس الموسيقي , ثم كيف سينتظر – ودقات قلبه تتتالى – فتح الباب , وظهور المفاجأة .. المفاجأة الكبرى !.
ابتسم .. حين توقف الشريط عند هذه المحطة , لم يرغب تجاوزها .. فمايليها , لئن رآه حقيقة , أفضل بكثير من أن يتأمله في دنيا الخيال ..
-2-
اللحن الموسيقي يتدفق , ودقات القلب تترافق مع وقع الأقدام المقتربة , فُتح الباب … ( حتى الآن الأمور تسير كما حُسب لها ) لكن المفاجأة لم تظهر !!. عجوز تجاوزت الستين تكلمت و( طقم الأسنان ) يكاد يسقط من فمها :
ماذا تريد .. أيها الغريب ؟.
الغريب ! يالها من كلمة !!. أتقال له , وهو الذي واظب على زيارة هذا المبنى سنين طويلة من عمر الزمن !.
ولكن .. لابأس .. لعلّه يستبق الأمور , ولعل المفاجأة في الداخل مازالت تترقبه ..
مرحباً ياسيدة ..عفواً ..
وابتلع ( ريقه ) .. ثم تابع بشجاعة متواضعة :
أيسمح لي بالدخول ؟!!.
مع شيء من التردد , فتحت الباب له .. دلف منه , وسار من غير سؤال إلى غرفة الضيوف .. ولكن صيحة من العجوز دفعته للوقوف ,ملتفتاً إلى سبابتها المشيرة إلى غرفة أخرى :
من هنا .. ياسيد !.
دخل من (هُنا) .. تصور أنه نسي مكان الغرفة , أو أن محتواها نُقل إلى هذه ..لكنه لم يجد شيئاً مماتصوره , فلا الغرفة هي الغرفة ولا أثاثها هو مايعرفه ويألفه !!.
-3-
مسح العرق المتدفق بمنديل ورقي .. وعاد ينظر إلى الساعة , لقد تأخرت هذه العجوز !. لم تسمح له حتى بسؤالها عن حاجته ، إذ أنه ما كاد يجلس على الأريكة حتى أغلقت باب الغرفة وهي تردد بأنها ستأتيه بفنجان قهوة !
الغثيان يجتاحه.. كعادته عند كل موقف حرج ، تغلب عليه بعناد .. عاد إلى عقله ، يحاول ترتيب أفكاره ووضع كل منها في مكانها الصحيح ، الشارع لا يمكن أن يخطئه ، والمنزل هو المنزل .. لكن .. من هذه العجوز ؟ ولمن هذا الأثاث ؟ ثم .. لم هذا اللقاء الجاف ؟!
أفاق من تأملاته .. على عودتها , وفنجان القهوة في يدها ..ناولته إياه ببلادة , وجلست بعيداً عنه على حشو رقيع , وهي ترمقه بنظرات قاسية .. قبل أن يرشف رشفته الأولى ..خرج صوتها الأجش :
لم أعرفك للوهلة الأولى .. كما إنك لم تعرفني !
سقط الفنجان من يده .. وانسكبت قهوته على بنطاله النظيف , لم يأبه لذلك !. فنظراته المثبتة على العجوز ألهته عن كل شيء ..
تابعت حديثها ..بنبرة واضحة الحزن :
ربما ..لأن ملامحي قد تغيرت , و..ملامحك أيضاً !.
لم يستطع الصبر ..صاح :
أنت ..أنت المفاجأة التي توقعتها !!. حقاً , فالعينان هما العينان رغم انطفاء البريق , والوجه هو الوجه رغم التغضنات والتجاعيد , والجسم هو الجسم رغم الانحناء والاحدوداب !!
صمت قليلاً ..ثم أردف مستفسراً :
لكن ..مالك تغيرت هذا التغير ؟. وعهدي أنه لم تمض السنون الطويلة التي يمكن أن تغير ماغيرت !!.
نظرت إليه ساخرة !!.
وهل تتصور نفسك , أنك ذلك الفتى الغض , الذي مازالت معالم الشباب تطل عبر ملامحه وحركاته ؟.
أطرق رأسه وهو يقول :
صحيح ..أنا تغيرت كذلك .
بيد أنه عاد إلى رفعه مرة أخرى :
لكن .. ماأعرفه أن الشيخوخة لاتصيبك !.
أجابته بلهجة حاسمة :
إنني لاأشيخ ..! إنني أكبر فقط , جوهري يبقى كما هو .. غير أن مظاهري وولائلي تتطور ..تناسب العصر , ترافق الزمان ..
كأنها تذكرت شيئاً , أشارت إلى جسمها متابعة حديثها :
فوق ذلك , فأنا أتجدد .. اصغر تارة , وأعود فأكبر تارة أخرى !.
-4-
وامتدت يداه باستعطاف ..قال بصوت خافت متقطع :
لكن ..هل من سبيل لتحقيق ماأريد ؟. لقد انتظرت طويلاً , منذ سنين وأنا أنتظر هذا اليوم ..أوه , ربما لم أحسب تلك السنوات , المهم أنني كنت أتهيأ له وأترقبه .. لاأعلم , كم فاتني .. ماأريد أن يتحقق أملي ..أرجوك , على الأقل قبل موتي !.
مسكين ..لقد تعداك الزمن , لم يعد لك ماتريد !.
صرخ ..لا.. لايمكن ذلك , صحيح أنني تركتك في فترة مالأبحث عن نزواتي .. صارعت الأخلاق , ونبذت القيم !.. لكنك كنت في مخيلتي دوماً ..كنت أعلم أنني سأعود إليك , لتعيدي إلي الطمأنينة والراحة , لم أتصور مطلقاً , أو بالأحرى لم أحتمل فكرة ..أننا لن نلتقي ثانية !. وهاأنذا جئت إليك سعياً على قدمي ,لم أرغب أن أجشمك العناء لتأتي إلي .. فأتيت أنا , فلاتخيبي أملي ..لا تقطعي رجائي ..رحماك , ياغالية . يا..حبيبة … ابتسمت بمرارة : ليتني أستطيع تلبية ماتريد ..إذ كيف أصلح ما أفسدته الحدثان ؟… لقد مر العام تلو العام , كنت انتظرك ..حين ظهرت أول شعرة بيضاء في رأسي ..أحسست بناقوس الخطر يدق , مع ذلك قلت لابأس !. وقلت لابأس أيضاً حين ظهرت البيضاء الثانية والثالثة والعاشرة .. وحتى المئة , لكنك لم تعد !.. امتلأ الرأس شيباً ولم تعد , تساقطت أسناني ولم تعد !. غابت ملامح من وجهي وجاءت أخرى .. ولم تعد !!. ماذنبي أنا ؟. كنت أتمنى أن أكون بقربك , لكن كيف أجيء إليك وأنت لاتريدني !. !.؟ ام م م م أفهمني ! ألم تطردني مرات عديدة ! احمر وجهي خجلاً : سامحيني ياغالية ..! أرجوك ! اتركي الماضي لاتنكئي الجرح الذي يندمل ..! قلبك أوسع من تصرفاتي ، رحمتك أكبر من شذوذي ، لقد عدت إليك .. فعودي إليّ يا .. عزيزة .
فكرت قليلاً .. قالت : وكيف تتغلب على نزواتك ! خبرني .
أجابها بلهفة ، وابتسامة الأمل تعود إلى شفتيه الذابلتين :
نتعاون سوية .. نتعاون سوية ، هلمي إلي ، وتعالي معي ، ولنذهب بسرعة قبل انطفاء الشعاع وهروب الضياء .
العجوز الشمطاء .. تتحول إلى صبية حسناء ، اختفى الشيب والتجاعيد والانحناء .. وحل مكانها رونق الشباب ونضارته !!
مدت يدها الناعمة ، تناولها بحنان بالغ ، وفرحة غامرة .
-5-
كثيرون ، لم يصدقوا الأخبار التي انتشرت في البلدة ، قالوا : إنها إشاعة ،
مجرد إشاعة !! إذ ليس من المعقول أن يكون التصرف الوارد ذكره في تلك الأخبار ، هو تصرف أحمد الصادقي بالذات ! وهو المعروف بانحلاله ، واستهتاره ، ولسانه السليط الذي لا يتورع عن شتم كل ما هو شريف من خلق ، أو سلوك ؟، أو إنسان !
لكن تواتر الأخبار ، دفعت هؤلاء إلى إعادة النظر في مواقفهم المنكرة !
شهود العيان تعدوا العشرات بل المئات ، ومعظمهم صادقون ..
ثقات ، بعض هؤلاء الشهود رأى أحمد الصادقي يتبرع لجمعية خيرية ، وبعضهم رآه يدافع عن مظلوم مقطوع من شجرة ، وبعضهم رآه يساعد كفيفاً على عبور الطريق ، بل أن احدهم أقسم بأغلظ الأيمان أنه رآه بأم عينه يزيح قشرة موز عن درب المارة !!
كل الأخبار … كل التساؤلات .. كل المواقف المؤكدة والمترددة كانت تصل إلى أحمد الصادقي أولاً بأول ، كان يستقبلها بابتسامة ولسانه يردد بصوت هامس .
ليتهم يعرفون .. أنني عدت إليها .
د.موفق أبو طوق