فايز خضور.. و «أداد القصيدة و الابن»

وقع في حجري مصادفة كتاب صغير الحجم , دفعه إلي أحد أصدقائي وقد قارب السبعين من عمره, حيث خبر الحياة و جال في دهاليزها , و منذ زمن انعجن بطحين الفلسفة حتى حاز على درجة الدكتوراه, و لأنه صديقي و ربما أكثر, دفع لي بهذا الكتاب ,بعدما كنت أحدثه لمدة طويلة عن خيانة إحداهن لصديقنا , بعد أن استغنى بها عن كل ما حوله و من حوله لمدة حولين كاملين ,و خلال حديثي الطويل معه ,كان يحاول توضيح صور من الحياة تؤكد أن خيارات التخلي عن الحب – إن وجد – أو عن العهود و المواثيق ,هي أقرب إلى الأنثى إن لم يكن من طبيعتها ,و ضرب لي مثلاً عن صديقه الذي يعرفه جيداً و منذ زمن طويل ,عن الشاعر فايز خضور, و روى لي رواية العارف ما جرى معه , عندها تلقفت ذاك الكتاب الصغير تحت عنوان (أداد), بقي على طاولتي فترة و لم أمخر عبابه ,فجأة دفعتني الرغبة فحسب لفسخ دفتيه, و عرفت فيما بعد أن الكتاب ذا القطع الصغير و المؤلف من 96 صفحة ما هو إلا قصيدة واحدة عنوانها أداد قسمها الشاعر لأقسام ثلاث وهي : رؤية المقتول , هواجس الرؤيا , و رسيس الرؤيا ,و هنا في البداية لا أخفي انحيازي للشعر العمودي عامة , باستثناء ما كتبه المبدع بدر شاكر السياب , لكني عندما قرأت أداداً أكثر من مرة وجدت نفسي أمام شيء جديد عن كل القراءات السابقة لشعر التفعيلة , و ليكن في معلوم القارئ العزيز , بأنني هنا لا بصدد تقديم دراسة عن أداد , لكنني أحببت أن أظهر مقداراً وافياً من الدقة في الرسم ,و الخبرة بالموقف , و القدرة على تطويع الكلمات الصعبة لتعبر عن مضمون راق و عميق , و إخراج بعض من زفرات فايز خضور إلى السطح ,بعد أن أخرجها من جوفه سنة 1982. بدراية الكتاب تمسك المتعة بك باكراً عند قراءة الإهداء تحت عنوان \ إليك \ , حيث إنه أهدى عمله إلى ما سماها ( العذابات الحميمة ) و اعترف بجميلها لأنها كانت سبباً لفهم الحياة بشكل أوسع، و مع ذلك أقسم بأنه لن يخسر الرهان مع ذاته على الأقل ,و أداد هو ابن فايز خضور الذي رآه المكسب الوحيد في حياته و أغلى ما فيها فتوجه له بتلك المشاهد التي شكلت تلك القصيدة ,و أداد لغوياً أو حدد هو إله المطر و العاصفة لدى السوريين القدماء ,لذلك قال في ص 17 :
أداد
سأبوح إليك ,و لا أوصيك.
لأني أمقت
منذ الوعي المبكر
فيهقة الفقهاء
و يتابع استعداده لرمي رواسيه ,و في نفس الصفحة يقول :
قرب كرسيك مني
واحمل هذا العبء الرازح ,عني.
و لنبدأ عرس الموت بأوجاع الميلاد
كل ذلك الاستعداد كان بعد مقدمة لا تخلو من التوجس من حياة عامة و لا من التمزق من أفعالها فقال في ص 15 :
من داهم ناموس الأشياء
حتى تفجعني هذه الرؤيا.
ثم تتالى الصرخات مع زفرات حقيقية ,تخالها تخرج من صفحات الكتاب لتسقط أمام كل من أصابه شيء من عفن الحياة ,حتى قال في ص 24 :
أداد
افتح قوسي أذنيك
و أغمد سيف الدهشة
في رئتيك
و طامن لجلجة الأنفاس
أمك من ملح الأرض
و لكن فسد الملح
ولن يصلحه الحرث
حرياً صار
بوطء حذاء الناس.
يهدأ ولكنه هدوء المتعب ,الذي أتعبه ما جرحه جرح عميق ,فيقول ص 29 :
أداد
زمن تحجر في المكان
لا راهب يعطيك مغفرة . و لا شيخ يطارحك الأمان
أتراك تحلم بالمسرة ؟!
قال الكثيرون عن خضور أنه امتلك معجماً خاصاً و ساحراً ,كان قادراً من خلاله على التحاف الحياة كاملة بمفردات اللغة العربية ,يحسبها البعض بأنها لا يمكن أن تكون شعراً إلا أن خضور أكد شعرية الألفاظ التي انطوت على قساوة هائلة يتحاكى فيها الأسلوب الفريد مع الصور الحادة فقال في ص 36 :
أداد
العين بعينين
و السن بسنين
أو قل : أكثر….
و الزاني من ينجب من داشرة
خبرت رتل رجال
نسيت وجه الأول منهم
في أرداف الثاني …
لو ساءلت قفاها
و هزت باستعهار المومس يوم أرادت أن تتحرر
فمن الجاني ؟
ومن فوضى الإحساس تخرج قطرات يراع يمزق بطون الحرية الكاذبة بصدق وأمان من ص47
أداد
من قهري لولا التعميم القتال
لقلت و أوجزت
بأن العالم
كل العالم
قواد ….
فايز خضور يكتب كما يعيش و يفكر و يقرأ دون أي كذب أو مواربة لتكون القصيدة كاملة البنية من اللغة إلى الصورة حتى الألفاظ و التراكيب و الأهم القصد من وراء ما يكتب فيقول في القسم الأخير من أداد ,قسم رسيس الرؤيا في ص 83 :
و قميص حبك
قد من قبل و من دبر
فأي شفاعة في الناس
ترتق ما تفتق ؟ .
و في تأكيد جديد لتناغم الإيقاع الداخلي للشاعر مع دافع الكتابة يقول في ص 92 :
أداد
أتعيد لي كابوس تموز الذي عشناه
في بردى
نطارد ذاهلين
الحور
كيف يميس
و الصفصاف
كيف ينوس
و السمار منفضين
و الماء المهرول
لا يحيي عاشقيه
و نحن نسرف في البشاشة
ننحني إن مر عصفور بنا .
وفي نهاية أداد يترك للقارئ الخيار مفتوحاً فتخاله ينضم إلى باقة غير التي كان يكتب بها , و مع أنها نهاية القصيدة لكنك تجدها ولادة جديدة تفتح الآفاق لما بعد , حيث يقول في ص 95 :
أداد
موتي و بعثك
و انبعاث الآخرين
حصانة الوطن الوحيدة ..!!
شريف اليازجي

المزيد...
آخر الأخبار