عندما تصوب الدراما العربية إلى مواجع وفواجع وأحلام الأمة , فهي تسعى لتؤكد بأنها تفتح الحوار والسجال والنقاش والمشاركة في مواضيع تؤرق الأمة ,وأكثر الأعمال الدرامية التي حظيت بنقاش حار وتركت مساحة شاسعة للحوار هي التي تتصدى لهموم وقضايا الوطن والمواطن ،وهذا ما قدمه (ليالي الحلمية) .
ليالي الحلمية ….والسؤال الصعب..
عندما أبدع الكاتب السينارست أسامة أنور عكاشة الجزء الأول من هذا العمل الملحمي كان يسكنه أرق كبير بأن يحدث منعطفاً كبيراً ونقلة نوعية بالدراما المصرية والعربية ,وأعتقد بأنه عندما أنجز الجزء الأول من ليالي الحلمية كان يداعبه حلم وهاجس بأن يؤرخ التاريخ الحديث لمصر أولاً وللعرب ثانياً ,ففتح ملف الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر فترة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي , وتحديداً في عصر الملك فاروق .
شخصيتان هما عماد العمل الدرامي متنافرتان ,عدوان لدودان لدرجة الغيرة القاتلة, سليمان غانم الإقطاعي صاحب الثراء القادم من الريف, سليم البدري البرجوازي الصناعي ابن المدينة ,وما يدور في فلكهما ,وكانت ساحة الصراع حي الحلمية ,هي رواية درامية تسجل الأحداث الجسام والتفاصيل اليومية التي تبهر المشاهد وكأنها أحداث بغاية الأهمية ،واستطاع بجهد خارق أن يوثق تلك المرحلة من نهاية الأربعينات إلى أوائل التسعينات ,عبر خمسة أجزاء بغاية الروعة الفكرية والفنية ,فقدم جميع شرائح المجتمع المصري بكافة أطيافه ,وبكل ما يحمله من طمع وجشع ووفاء ونبل , وما يسكنه من قبح وجمال ,وأعتقد بأنه العمل الدرامي الأول في الوطن العربي الذي يملك مصداقية ثقافية وفنية ,وكان شريكه الإبداعي هو المخرج الرائع إسماعيل عبد الحافظ في رحلة الأجزاء الخمسة الذي ترجم السيناريو من (ورق) إلى صورة بأبهى حلة ,وأثبت إسماعيل عبد الحافظ بأنه الأمين على الأفكار والقيم النبيلة التي دونها أسامة عكاشة وشاركه رسم الحلم القادم .
سرقوا أسامة وإسماعيل ….
ولأن العمل الرائع (ليالي الحلمية) قد حظي بأعلى نسبة مشاهدة من كافة أطياف الشعب العربي على امتداد الخارطة للوطن العربي ,ولأنه ترك دفئاً وذاكرة متقدة عن فترة خصبة بالتاريخ المعاصر ,فإنه حصد هذا الكسب الجماهيري وخصوصاً أن بعض أبطال العمل ما زالوا بيننا ,وهكذا تبنت الشركة الإنتاجية (إم بي إيه) المشروع الرابح ,وهو ليس بحاجة للتسويق لأن اسمه فوق مستوى التسويق فتم التعاقد مع الكاتب أيمن بهجت قمر وعمرو محمود ياسين لكتابة الجزء السادس من ليالي الحلمية وأسندت إدارة دفة العمل الدرامي للمخرج مجدي أبو عميرة , الذي أقنع بعضاً من نجوم الأجزاء السابقة بهذه المغامرة ومنهم الفنانة إلهام شاهين والفنانة الكبيرة صفية العمري التي شاركت في جميع الأجزاء والفنان هشام سليم , لقد بدا واضحاً بأن هذا الجزء حاول أن يسرق بعضاً من روح ودعابة أسامة أنور عكاشة المتدفق بالعفوية والسخرية والتهكم ، وكان بعيداً جداً عن التكلف والتصنع في صياغة حواره الدرامي, ويمزجه بالكوميديا (كوميديا الموقف) ولكن للأسف ظهرت المبالغة السمجة وخصوصاً بدور الشاب الحفيد الذي حمل اسم جده سليمان غانم، ولأن الشخصيات هي منجزة سابقة ومكتملة الحضور الفكري والفني مثل شخصية (زهرة غانم للفنانة الهام شاهين )وهذا ينسحب على جميع الشخصيات التي تواجدت بالأجزاء الخمسة سابقاً ,فبدا حضورها وكأنه شهادة زور درامي,حتى البناء الدرامي الذي نحا للتكلف في تطور الأحداث الدامية ,فقد اتسم بالفبركة أحياناً وبشكل منفر أحياناً أخرى ,فبدت بعض الأحداث التي جرت في مصر وكأنها مدخل لركوب موجة هذه الأحداث التي عصفت بمصر ,مثل قضية( الاغتيال السياسي والإرهاب) والمتغيرات السياسية والاجتماعية والإنسانية ,ولكن غابت تلك الرؤيا الفاحصة التي كانت كمجهر تستقصي الأورام الخبيثة في المجتمع المصري ,وللأسف …مرة أخرى لم يسطع المخرج مجدي أبو عميرة صاحب العمل الدرامي الشهير (المال والبنون) أن يخرج من عباءة المخرج المخضرم إسماعيل عبد الحافظ الذي أبدع الأجزاء الخمسة التي ما زالت تحتفظ بذاكرتنا بسحر خاص.
لماذا سرقوا الأضواء ؟
لأنهم ليسوا بحاجة لنص درامي جديد في طرحه ومعالجته الفنية ,والأهم من كل هذا يتكئون على عمل ملحمي كبير ذي تاريخ ناصع البياض,وشخصياته ناضجة وذات حضور إنساني وفني في ذاكرة المواطن العربي وليس بحاجة لأن يسوق في كافة المحطات الفضائية , فيكفي ذكر اسم ليالي الحلمية حتى يحصل منتج العمل إلى أعلى سعر له ويعرض في أفضل أوقات ,إنهم لا يسرقون الأضواء بل هم يسرقون إبداع كاتب فريد ومتميز في الساحة العربية ,دون أن يرف لهم جفن ,وإن سألتهم سوف يتاجرون بأنهم يكملون مسيرة المبدع أسامة أنور عكاشة ,وأشد ما يحزنني بأن ورثة (عائلة ) الراحل أسامة أنور عكاشة قد ساهمت بهذا ,بأن تنازلت عن حقها الشخصي بعد أن قبضت مبلغاً من المال (أكيد كان مبلغاً مغرياً) نعم هم لا يبيعون جسد الراحل ,بل يبيعون عقل وفكر وفن الراحل وبأبخس الأثمان ,والشركة المنتجة إم بي إيه هي التي سوقت وأجرمت بحق الراحل أسامة أنور عكاشة . محمد أحمد خوجة