بنيت الأسرة و خاصة الشّرقية على علاقة ودّ و رحمة و طيبة خاطر بين الشّريكين و لعلّ تضافر الظروف و قسوتها سيّما الماديّة و ما آلت إليه الأحوال الشخصية في هذه الآونة جعلت معظم حالات الخلافات بين الشريكين قصّصاً أكثر إعلاناً و تشهيراً سواء في المجتمع أو محاكم الصّلح حتى غدا أثرها معلناً في كلّ مكان.
تراودني الكثير من الأمهات للحديث و الشّكوى حول ما آلت إليه أسرهنّ نتيجة الخلافات الأسرية اللاتي يتعرّضن لها و من خلال عملي بمجال الإرشاد النّفسي و الأسروي أقدّم ما يمكن من دراسات و أبحاث متعلّقة بتأثير الخلافات بين الأبوين على الأولاد بمختلف مراحلهم العمريّة و ما تقتضيه تلك الخلافات من ردّات فعل آنيّة أو مديدة .
كل العلاقات و مهما تعددت أنواعها قد لا تخلو من مسببات الشّجار و ربّما التّطاول على الخصوصيات النفسية والماديّة و ربمّا تتجاوز للجسدية و طبيعي جدّا أن يحدث اختلاف فى وجهات نظر كلا الطّرفين بين الحين والآخر وقد تحدث مجادلة وشد وجذب في النقاش والحوارات في الأمور المتعلقة بحياتهما سواء بخصوص المستقبل المهني أو في الأمور المالية أو إحدى القرارات المتعلقة بالأسرة و الأولاد سواء لأجل سبب مهمّ أو بسيط يتعلّق بالأمزجة و إمكانيّة التطبّع و تقبّل الطرف الآخر .
الأولاد يهابون الصّراخ
ماذا يعني أن نختلف أو نتشاجر بهدوء؟
ماذا يعني أن نتعلّم إمكانية الحوار بصوت منخفض ٍ و تعابير وجوه هادئة و مرتاحة ؟
كثيراً ما نجد الخلاف بين الأبناء يأخذ صفة الهدوء فيأخذ كل واحد منهم دور المنصت والمستمع فى نفس الوقت، إلا أن سمة الهدوء من النادر أن تتوفّر و تحدث عند اختلاف وجهات النظر بين الزّوجين فتتعالى الأصوات و ردّات الفعل و ربّما الشتائم و عبارات الإساءة و التّوبيخ مما يجعل الأطفال مندهشين خائفين يتساءلون لماذا يحصل ما يحصل و كيف ستنتهي الأمور و متى سنرتاح من واقعنا هذا ؟
و ما أقساها من لحظات يغدو الطفل متسائلاً عمّا إذا كان الوالدان يحبّان بعضهما أم لا و عن أسباب تغيّرهما في سير الحياة ، و هل سيستمرّان في زواجهما و ماذا بعد؟
خلاف الأبوين عاصفة لا بدّ أن تهدأ
تسألني طفلة في العاشرة من عمرها إلى متى سيبقى يتشاجر أبي و أمّي و إلى متى سنبقى هكذا ؟
لا مانع من أن يأخذ كلا الوالدين الأبناء و يوضّحا لهم أن الموضوع لا يتعدّى المشاجرة التي هي أشبه بعاصفة ستهدأ بعد حين و ربّما تقوّم ما هو غير مناسب ، لا عيب في أن يحدث شجار أو اختلاف بين الزّوجين كأي أخوة أو أصدقاء و أن يكونا واقعيين بطريقة السّرد دون تحيّز و طمأنتهم بأنهما لن يؤثّرا على مصير البيت و خاصة الأولاد فهم القاسم المشترك بينهما و الأحبّ إليهما
.بل من الطّبيعى أن يكون هناك اختلاف فى وجهات النظر بين أي شخصين ولا يقتصر الأمر على الأب والأم، وهذا الاختلاف يكون في طريقة التفكير وفي السلوكيّات وفي المشاعر، جميعنا نملك طباعا تتحكّم بأفعالنا و ردّاتها لكن طريقة التعامل مع هذه الاختلافات و الطّباع هو الذي يحكم طبيعة الجدل والشكل الذي يؤول إليه، فالنقاش هو أولى الخطوات لحدوث الاتفاق بينهما مهما اختلفا في الرأي.. فمن الأمور الهامة في العلاقات الأسرية أن يفهم كل واحد طبيعة الآخر وطبيعة مشاعره وطبيعة تفكيره حتى لو كان هناك اختلاف فيها ، و لعلّ العناد و التمسّك بالرأي هو من أكثر المسبّبات التّي تقف أمام حل أزمة الخلاف و ومعالجتها و قد تطّرد ببعض السلوكيّات المدمّرة كالصّراخ الزّائد عن الحد ّ و التفوّه بالكلمات غير اللائقة و التّرهيب سواء بإيقاع الضّرر بالنّفس أو ترك المنزل أو الانفصال أو تدمير ملكيّة و تدمير الآخر أو التعدّي بالضرب و التّعنيف الجسديّ .
هل ينسى الأطفال خلاف الأبوين ؟
الخلاف مهما صغُر أو كبُر لن يكون سهلا أو عابراً على أفراد الأسرة حتى صغارها و لا مفرّ من أن يصابوا بشيء ٍ من الحيرة و ربّما الإحباط لما يرونه أو يسمعونه، فالأب والأم قدوة لأبنائهما لابد وأن يتمسكا بالهدوء قدر استطاعتهما لأنهما يقومان بدور الأفراد النّاضجة المتعلّقة فى العائلة.
أما عن درجة تأثر الأبناء فهذا يعتمد على تكرار المواقف التي تدعو للشجار، وعلى مدى حدته وهل ما إذا كان الشّجار يتم في خصوصيّة بين أفراد العائلة أم أن نطاقه يمتد إلى ما وراء ذلك؟!
السيّدة سميّا أم لابنة في الخامسة تقول : كلمّا تشاجرنا أنا وزوجي تخاف ابنتي و يصفّر وجهها حتى أن الرّعب أصبح ملازماً لها و أحيانا يُرافق خوفها بشكوى مغص و آلام معوية مما تجعلني باضطرابٍ و حالة تراجع حتى أمام المطالبة بحقوقي ..
أمرٌ طبيعيّ أن ينتاب الأبناء حالة من التّوتّر والقلق، بل والارتباك والخوف من أن يلحق الأذى بأحد الأبوين عند ازدياد الخلاف حدة وفقد السّيطرة على النّفس ، و كل هذا يضع الابن أو الابنة في ضغوط نفسيّة قد تترجم في صورة أعراض جسدية تظهر في آلام الصداع أو آلام المعدة و ليس و حسب بل من الممكن أن يصعب على الأبناء أثناء نوبات الشجار ممارسة حياتهم الطبيعية من الاستذكار أو تناول الطّعام أو الخلود للنوم.
وقد لا يعي الآباء مدى تأثر الأبناء إلا عندما يتحدثون إليهم بوصفهم لسلوكيّات آبائهم التي قد أفزعتهم. فشجار الآباء حتى لو كان بسبب الأبناء، تقع مسؤوليته عليهم وليس على الأبناء مطلقاً.
لذا ينبغي أن يتعلم الشخص منذ صغره كيف ينصت للآخرين وكيف يكبح ثورات غضبه عندما لا يروقه شيئاً. وأن يصل الشجار إلى الحد الذي سرعان ما يزول وترجع الأسرة إلى روتينها المعتاد عليه.
تذكيرٌ لافت:
فالطفل الذي هو الآن طفلا سيغدو غداً معيلاً و ربّاً لأسرة و سيكون مسؤولاً عن أسرة و أبناء و شؤون ماليّة ، ولا مهرب و لا مانع من أن يحدث الاختلاف بين الأبوين كسائر الناس لكن بشرط أن يكون اختلاف به نبضات الحبّ و الرّحمة والتفاهم و الخوف على بعض بل الحرص والتعاون من أجل حل المشكلات الصغيرة قبل الكبيرة.. وهذا هو المناخ الصحيّ للأسرة التّي ما نحنُ إلّا مؤتمنين عليها و ستنعكس علينا و حياتنا بشكل عام.
رندة عبيد