معالي الوزير ينشر غسيله

إن ظاهرة الفساد تغطي مساحة الأرض من شرقها لغربها ومن جنوبها لشمالها ,طبعاً تتفاوت درجة الفساد بين هذا البلد وذاك البلد لأسباب يطول شرحها ,ولكن الأكيد بأن الفساد المنتشر في مصر لا يوجد له مثيل إلا في مصر دون العالم …لأنه الأكثر غرابة ,ومعالي الوزير هو أنموذج يفقأ الأعين .
وحيد حامد يوقظ الأفاعي
لقد كشف النقاب الكاتب الكبير السينارست وحيد حامد عن أهم ملف من ملفات الفساد في مصر ,فقدم لنا سيرة ذاتية لمعالي الوزير يرويها بنفسه كيف تصرف إلى أن أصبح وزيراً ,وحكاية الفيلم بسيطة في سردها عميقة في دلالاتها وشاراتها ,بطل الفيلم (رأفت رستم )الذي لعب دوره الفنان الراحل أحمد زكي ,يرشح لمنصب الوزير بالخطأ (تشابه بالأسماء) بينه وبين دكتور جامعي ,ولكنه أمسك بالفرصة الذهبية ,ودخل الوزارة ولم يخرج منها ,رغم التعديلات الوزارية التي حدثت فيما بعد ,ولكن مأزقه القاتل هو (النوم) فالنوم حلمه بأن ينام مثل كل الناس, فالنوم أصبح بالنسبة له أمنية مستحيلة المنال ,وإن استطاع النوم فهو كوابيس,والكوابيس تلاحقه لترسم له النهاية المأساوية التي تنتظره ,بدءاً من كشف الرشاوي والعمولات ونهب المال العام ,إلى رفع الحصانة عنه ومحاكمته ,وفي كابوس آخر يكتشف بأن أفراد أسرته يحاولون دفنه حياً ,هي كوابيس مرعبة,والمذهل في ما أصابه أنه يكتشف مصادفة بأن المكان الوحيد الذي يستطيع النوم فيه دون كوابيس تقض مضجعه هو السجن (النظارة) في أحد أقسام الشرطة ,والمسجد الذي منحه الراحة وأبعد عنه كوابيسه المرعبة ,وكأنه يؤكد لنا بأن السجن هو المكان الطبيعي له ,وخصوصاً بعد أن طرده مؤذن المسجد عندما حاول النوم في الجامع مرة ثانية ,والمرعب في ما يبوح لسكرتيره الذي لعب دوره الفنان هشام عبد الحميد ,يسرد له تاريخه القذر ,من تقاريره الكاذبة الملفقة بدءاً من بحق زوجته التي دخلت المعتقل على إثر تقاريره الكاذبة , ولعبت دور الزوجة السابقة الفنانة يسرا ,وظهرت بمشهد واحد رغم نجوميتها .
لقد أدرك سعادة معالي الوزير بأن سكرتيره الخاص قد اطلع على جميع أسراره وخفايا أفعاله ,أي أنه دخل مساحة محرمة على الجميع ,وكونه خائفاً من تاريخه الأسود ،فإنه يرسل قتلة ترمي بسكرتيره من شقته العالية ,وفي اليوم التالي يجمع الموظفين في وزارته ليلقي عليهم رثاء موجعاً بحق سكرتيره المرحوم (الشهيد) كما قال, وبأن يد الغدر قد نالت منه ,لقد قدم السينارست وحيد حامد عقلية انتهازية سلطوية مجرمة تتحكم بمفصل هام وحيوي من حياة الشعب المصري ,دون أن ينال منه التحقيق أو القضاء شيئاً ,وتكمن عبقرية الكاتب وحيد حامد بأن حرمه من أبسط حق يناله أي إنسان على وجه الأرض (النوم)،وإن قُدر له النوم فمصيره الكوابيس ,لقد أقام وحيد حامد محكمة خاصة به يحاكم من سرقوا وأثروا على حساب الوطن والمواطن ,محكمة يمكن تسميتها مجازاً (محكمة الضمير الغائب) يعري هؤلاء القتلة عندما يضعهم أمام مرآتهم الخاصة دون أن تستر عورتهم ورقة توت .
مخرج يفضح المخفي
لقد قدم المخرج المخضرم سمير سيف قراءة فنية واعية لنص درامي ملتبس ,في شخصياته ,ملتبس في مأزقه ,رغم أنه كمخرج قد برع في أفلام (الأكشن) في هذا الشريط السينمائي قدم سمير سيف كاميرا هادئة ورزينة في رصد انفعالات الدفينة لأبطاله وتابعهم بحركة بسيطة ومدروسة دون أي إبهار في استعراض خبرته الطويلة ,اختار أماكن الحدث المناسبة ليعمق أجواء معالي الوزير دون مبالغة .
أداء يرتقي بالجميع
لقد تناول الفنان الكبير أحمد زكي هذه الشخصية بحذر ووعي ,قدم مخزوناً هائلاً من الانفعالات الداخلية وبطبقة صوت يميل للهمس ,فطيلة زمن الفيلم لم يعل بطبقته الصوتية ,الفنانة لبلبة الزوجة الثانية قدمت أداء بسيطاً وعميقاً ,والفنان الكبير عمر الحريري تناول دور رئيس الوزراء بنضج فني يحسب له ,الفنانة يسرا بصمت بدور رائع لها رغم ظهورها بمشهد واحد .
تقنيات تثري الفيلم
مدير التصوير رمسيس مرزوق بخبرته الطويلة نوع من شفافية الكاميرا التي أدارها بحس فني رائع ,ولكن الموسيقي الموهوب خالد حماد صاغ موسيقى متفردة بجمل موسيقية تترجم المواقف الدرامية ,بالرغم من إنها اتسمت بالكثير من الحزن والبؤس الداخلي .
يجب أن يقال
فيلم معالي الوزير ينشر الغسيل ….. ويدين هذه العقلية السلطوية التي تعبث بمقدرات أهم وأكبر دولة عربية ,بعيداً عن الخطابة المقيتة ,فيلم نظيف بأفكاره وبمعالجته الفنية الراقية .

محمد أحمد خوجة 

 

المزيد...
آخر الأخبار