إننا نلحظ في الوقت الحاضر أن الخبز الذي نحصل عليه إنما يكون من إنتاج مخابز الدولة أو المخابز الخاصة التي تنتج الخبز السياحي و غيرها من المعجنات و أن الطحين المستعمل في صناعة الخبز إنما يتم الحصول عليه من مطاحن الدولة أو المطاحن الخاصة .
إلا أنه في السابق فإن معظم البيوت في المدينة و الريف كان يوجد فيها إما التنانير ( مفرد تنور) أو الصاج من أجل إنتاج الخبز. و الطحين كان يتم الحصول عليه من خلال أخذ القمح إلى الطاحون لطحنه .
كان القمح يؤخذ إلى الطاحونة إما على ظهر الحمار أو بواسطة عربة تجرها الخيول حيث كان القمح يوضع في شوالات من القنب و بعد الطحن يتم وضع الطحين في العدولة ( جمع عدل و العدل هو عبارة عن كيس مصنوع من خيوط القطن كي لا يسمح للطحين بالنفاذ إلى خارج الكيس) , و بعد طحن القمح يتم العودة به إلى المنزل و يكون بالعادة ساخنا لذا يتم فرده مباشرة حتى يبرد . و بعد أن يبرد يتم نخله بواسطة منخل حيث تنفصل عنه النخالة و بعد ذلك يتم تعبئة الطحين في عنابر خشبية أو أوعية من التنك بحيث يكون الطحين جاهزا لعجنه و من ثم تصنيعه خبزا . أما النخالة فإنها تصبح علفا للحيوانات .
غالبا ولاسيما في الريف فإن كلب المنزل كان يرافق الحمار أو العربة في ذهابها و عودتها من المطحنة و هو لا عمل له نهائيا لذا فإنه كان يوجد مثل في حماة يقول ( روحة كلب عالطاحون ، روحة كَرْف و جية هرف و غبرة وقلة اعتبار)وهذا المثل يطلق على شخص يذهب لقضاء حاجة فلا تنقضي معه و يرجع خائبا بالرغم من تعبه لأن مشواره راح هباءً .
و الآن سأتكلم عن أنواع الطواحن :
أولا: الطواحن المائية : هذه الطواحين معروفة منذ آلاف السنين ففي حماة انتشرت تلك الطواحين على مجرى نهر العاصي و كان عددها أكثر من عشرين طاحونة بين الرستن و حماة أذكر منها طاحونة الغزالة و طاحونة باب النهر و طاحونة تقسيس .هذه الطواحين تعمل بالماء إذ يدخل الماء من خلال فتحات جانبية و بقوة ماء كبيرة تجعل حجر الرحى يدور ليطحن القمح .
منذ إنشاء سد الرستن توقفت معظم الطواحين المائية الواقعة على مجرى نهر العاصي . و أن الطواحين التي بقيت فإن عملها كان مرهونا بقوة المياه الجارية لذا فإن الطاحونتين المائيتين المتبقيتين كانتا هما طاحونة تقسيس و طاحونة باب النهر. وهاتان الطاحونتان توقفتا بشكل نهائي منذ أكثر من عشرين عاما . بسبب عدم انتظام جريان المياه في نهر العاصي .
ثانيا : الطواحين الآلية : هذه الطواحين تعمل إما على الكهرباء أو على المازوت و كانت تسمى في السابق طاحونة النار . انتشر هذا النوع من الطواحين منذ ثلاثينات القرن الماضي. و مازلت أذكر طاحونة النار في سلمية التي كانت تقع في أول طريق السعن حيث كنت أشاهد الازدحام على أوجه في تلك الطاحونة، لقد كانت تلك الطاحونة هي الوحيدة في تلك المنطقة وحول الطاحون من الخارج كنت تشاهد الحمير و العربات و الطراطير و هي محملة بالقمح و أصحابها ينتظرون دورهم ليتم طحن القمح الذي قاموا بجلبه .
هذه الطاحون توقفت عن العمل منذ زمن طويل مثلها مثل بقية الطواحين لأن خبز الخبز في البيوت قد انعدم نهائيا و أن الجميع صار يشتري الخبز من إنتاج مخابز الدولة و مخابز القطاع الخاص .
ثالثا: الطواحين التي تقوم الثيران أو البغال بتشغيلها : قبل وجود الطواحين الآلية و في الأماكن التي لا يوجد فيها مسيلات مائية كان يوجد نوع من الطواحين تقوم الحيوانات فيه بإدارة الرحى حيث كان يقوم الثور بالدوران على دائرة و في منتصف هذه الدائرة يوجد حجر الرحى مثبت عليه عمود أفقي حيث يتم ربط الثور بهذا العمود .
هذا النوع من الطواحين كان يوجد في مناطق القلمون والمناطق الصحراوية حيث لا وجود فيها للماء .وقبل انتشار الطواحين الآلية كانت إنتاجية هذا النوع من الطواحين قليلة نسبيا لأن سرعة دوران الثور لا يمكن أن تقاس بسرعة دوران رحى الطاحونة المائية فجريان الماء هو أقوى بطبيعة الحال
ولكي يبقى العمل مستمرا بتلك الطواحين فإن صاحب الطاحون كان يمتلك أكثر من ثور أو بغل بحيث يرتاح أحدهما ليباشر الثاني العمل .
لقد انقرض هذا النوع من الطواحين بشكل نهائي منذ منتصف القرن الماضي بعد انتشار الطواحين الآلية .
أذكر أنه منذ أكثر من خمسين عاما كان لي صديق من أيام الجامعة استضافني في بيته الكائن في قرية جيرود مدة يومين و في حينها رافقته و شاهدت القرية فإذا به يأخذني لمشاهدة ما تبقى من آثار الطاحونة التي كانت الثيران تقوم بتشغيلها
و إلى اللقاء في ذاكرة حموية جديدة
المحامي معتز برازي
المزيد...