هناك من يعتقد أنه في استقالته من الوظيفة يعني أنه استقال معها من الحياة العامة ، ويحس بعدها بعاطفة الانكسار والانزواء، وتراه يستسلم لحياة التثاؤب والتمطّي إلى أن يدركه الأجل , ونرى أيضا أن من قطع الستين من العمر يوهم نفسه أنه قد دخل طور الانهيار وأن ما بقي من سنين عمره سيقضيها في الفراش في حال المرض والأوجاع أو سجينا في زنزانة بيته جالسا على كرسي موسَّد , وستكون صورته إن مشى ففي تثاقل روماتزمي , و يتأوه ويتكوع، وترى البعض منهم لا يبالي بما يأكل ويشرب ويعتريه الخوف والقلق وهموم وخواء روحي وضمور في النفس. وفي نفس الوقت ترى من الناس من بلغ الثمانين أو التسعين وتجده – مع ذلك – قد احتفظ بشباب العقل وصحة الجسم وهم بالطبع قلّة , وأقل منهم أولئك القادرين على التعبير والشرح والنقد .
وحتما إن للوسط الاجتماعي والنظام الغذائي وأسلوب العيش دوراً يساعد على الاستمتاع بشيخوخة مثمرة مجدية بدلاً من شيخوخة محطمة بائسة ومن المسنين من ليس له أي اهتمام بنشاط أو هواية , وللأسف إن أكثر مسنو بلدنا وبخاصة من بلغ منهم الستين أو السبعين يعانون من أمراض الجسم وخواء الذهن وضمور النفس , وقد انقطعت الصلة بينهم وبين عصرهم فهم في ألم وتذمر مستمر حتى يبدو لك الواحد منهم كأنه ميت وقد تأخر دفنه , أو في منظر وقد ظهر فيه كقفر لا تحتوي نضرة ولازهرة .
في الشيخوخة عدة مشكلات منها صحية ونفسية وذهنية واجتماعية وكل مشكلة منها تحتاج إلى حل , فمشكلة الصحة من أهم مسبباتها الشره في تناول الطعام ومطبخنا العربي غني بألوانه التي يقدمها من أطعمة مثقلة بالشحوم التي تسلب نشاط المرء وتعجل بالهدم . والشره والاستكراش يعد من أسوأ عيوب الشيخوخة فهو يسرع بزيادة الأمراض وبخاصة زيادة الوزن ولذا وجب تجنب الأطعمة الدسمة وأن شر ما يعجل الهرم هو النهم. علينا أن نفهم يقيناً أن عادة السمن والترهل والبول السكري عادات سيئة ومتى سادت في النفس أسرع الفساد إلى الجسم وأما المشكلة النفسية عند المسنين فكم ترى منهم في وطننا يهرمون من الوهم قبل أن يهرموا من واقع السن المتقدم وهم يعانون من خواء روحي وخمول ينشاط جسمي ويكافحون ليدرؤوا سأما , وهم في شكوى دائمة أنهم يحسون احتقاراً وانتقاصاً من مجتمعهم. إن غايتنا من الكتابة ليستمتع المسن ببقية عمره وينشط ويساهم في رقيه الشخصي والروحي وليساهم معها في رقي المجتمع .. وليعلم يقينا أن الستين أو السبعين بل وحتى الثمانين ليست نهاية العمر .
فلا يجب على الإطلاق أن نخاف الشيخوخة ولا نستسلم لمرض وليس من الحكمة أن نستكين ونركد ونهيئ الكرسي ذا المسند كي نجلس عليه بارتخاء لنرتاح و نتثاءب , إن سن التقاعد في أوروبا هو سن النضج والإيناع والنضارة وكم ترى فيهم من شباب وهم في الستين والسبعين يلعبون في الملاعب الرياضية في مرح ويمتازون بعضلات مفتولة وبطون ضامرة وعيون صافية وتراهم يتمتعون بجمال الجسم إلى جانب جمال الشخصية ويركبون الدراجة الهوائية بلا حرج ويتمشون في الحدائق و…و.. علينا أن نعلم أن كسل الجسم قد ينتهي بكسل النفس والذهن. إن المسن جدير به أن يحيا ويستمتع بحياته وعلى الناس الكف عن مطالبته التصنع بوقار كاذب , ومجتمعنا مجتمع جامد ينظر إلى الستيني أو السبعيني باحترام ووقار ظاهريا لكن في باطنه يستهجن أنه لا يصح للمسن وممنوع عليه أن يلعب ويمرح أو يلبس ما يروق له من ألوان أو موديلات أو حتى أن يسير بلا جاكيت ويستهجن منه الجري أو الوثب . , وتسمع من أحدهم من يخاطب المسن بكلمات العطف وإيحائه بوهم العجز وإشعاره كأن دوره انتهى وما عليه إلا أن يقنع بالماضي ولا يتطلع الى المستقبل او يفكر بمشروعات جديدة . لأن صورة المسن الراسخة والمطبوعة في أذهان الناس في بلدنا أنه إذا سار في الطريق ظهر كمن يسحلب في مشيته وأنه رجل بلغ مغرب الحياة وعليه أن يودع الدنيا وخاصة إذا كان قد فقد صحوة الذهن وصحة الجسم . على الناس أن تفهم أن الإقالة من الوظيفة ليست إقالة من الحياة والمتقاعد ليس عنصراً زائد عن الحياة والمجتمع . والواجب كل الواجب أنه على الشيوخ أن يتخذوا لأنفسهم أهدافا يستقبلون بها الدنيا بدلا من أن يستدبروا حياتهم ليقضوا الوقت في ذكريات الماضي العقيمة وكما ذكرنا آنفا أن مشكلة الشيخوخة مشكلة نفسية وليست مشكلة جسمية .
علينا أن نتحدى الشيخوخة ولا نستسلم لها، ونعدّ الجسم والذهن والعاطفة وأن نكافح الركود وأن الهواية التي تشغل المسن بعد الستين من العمر تجعل منه رجلا يعيش في شباب دائم بل حتى لو تجاوز المئة وأن الهواية هي إيجاد ما يشغل الذهن والنفس حتى لا يحس المسن خواء الحبأة , وقد تكون الهواية مطالعة او دراسة أو هوس اقتناء تحف أو تطوع عمل في جمعيات خيرية أو..أو .. عليه أن يعتني باختيار أصدقائه فالصداقة تكبر قيمتها في الشيخوخة حيث يكثر الفراغ وتثقل الوحدة ويحرص المسنون فيها على لقاء بعضهم لأنهم يجدون في الصداقة أنس ومحبة ومسرة وسلوى ولذة وكم تحلو الحياة أكثر إذا كان الأصدقاء على تكافؤ في المستويين الاجتماعي والثقافي وتجمعهم عادات متشابهة . إن في الثقافة والفنون يتمثل إيقاع الحياة وهي خير الهوايات للشيخوخة فهي تبعث الاهتمامات وهي ميدان رحب لا نصل إلى آخره ولا نشبع منه و هو يشعرنا بالنمو والرقي كلما ازددنا توسعا فيها .
وتبقى القراءة ضرورية أيضاً وخاصة لمن جاوز السبعين من عمره فكم هو بحاجة عظيمة إلى مداومة القراءة وأن أعظم ما يحزن المسن أن يجد نفسه عرضة للنسيان لكن مداومة القراءة تجعله يتذكر ويوسع آفاقه للثقافة. إن يقظة النفس والذهن تستبقي يقظة الجسم .. والوهم كل الوهم هو الاعتقاد أن المسن دخل طور الانهيار بعد سن التقاعد. وأعود أكرر أنه لابد من هواية تملأ الفراغ أو عمل يطالبه بالجد والمثابرة لأن في الفراغ مفسدة تجعل المسن في حالة اجترار للحقد والغيرة والحسد والخوف والقلق ودائم النقد لمن حوله مما يسبب له توتر النفس الذي يؤدي بدوره إلى توتر الشرايين ومن ثمة تصلبها فالموت بالنقطة أو الفالج . وكل هذا من أمراض النفس .
وإذا أفرط الإنسان في تحمل الهموم ذوى وانهارت شخصيته وصحته ..
محمد مخلص حمشو