كثيرة هي الأمثال التي نستخدمها في حياتنا اليومية و هذه الأمثال جاء بعضها وليد قرون سابقة ، ومن هذه الأمثال هناك مثل ( مسبع الكارات ) و الكارات مفردها كار و يعني المهنة أو الصنعة و هنا لا بد لي من الإشارة إلى أن مثل مسبع الكارات يختلف في مضمونه من بلد إلى آخر . فالكارات المقصودة في اللاذقية مثلا و التي هي بيئتها ساحلية تختلف في قسم منها عن الكارات المقصودة في دير الزور و التي هي بيئتها صحراوية . لذا سأتناول في هذه الزاوية عبارة ( مسبع الكارات ) من منظور حموي بحت و من خلال مجالستي للعديد من كبار السن في القرن الماضي
إن كلمة مسبع الكارات كانت تطلق على الشخص الذي يقوم بعدة أعمال دون أن يكون له بمجموعها مردود مادي كاف . لذا كان هنالك مثل مازلنا نتداوله حتى الآن و هو ( كتير الكارات ، قليل البارات ) و البارة هي عملة عثمانية قديمة تعادل القرش السوري و في هذا المجال يحضرني أغنية عن البارة كان يغنيها منولوجست حماه الشهير عبد المجيد مغمومة حيث يقول فيها:
الله وكيلك ياجارة ما في معي و لا بارة
إن حبيتي أهلا وسهلا و إن ما حبيتي يا خسارة
و الآن أعود لتعداد الكارات السبع و هي :
صلي الدبق : و الدبق هو نوع من الأغصان يتم تغطيسه في الدبق ( و الدبق هو نوع من السائل يخرج من جذوع بعض الأشجار ) حيث يقوم الشخص بتغطيس هذه الأغصان في السائل الدبق و من ثم وضعها على غصون الأشجار في البساتين فتصبح كالفخ . ثم يختبئ هذا الشخص في مكان قريب و يقوم بإصدار صوت ( سق …… سق ) تقليدا لصوت العصافير عندئذ تأتي العصافير و تحط على هذه الأغصان فتلتصق بها ليأخذها هذا الشخص و يبيعها في السوق للأطفال حيث لم يكن سعر العصفور الواحد في منتصف القرن الماضي يتجاوز الفرنك الواحد .
العزف على المنجيرة : و المنجيرة هي قصبة فارغة وفيها فتحات ينفخ فيها الرجل ألحانا مختلفة ثم يتوجه هذا الشخص و يقف في أحد شوارع المدينة ويقوم بالنفخ في هذه المنجيرة حيث يقوم المارة بإعطائه دريهمات معدودة
كش الحمام : وهي هواية لها تقاليدها و عاداتها و مازالت منتشرة حتى الآن و يقوم مربو الحمام ببيع و شراء طيور الحمام سواء من سوق الخميس أو سوق الجمعة أو من مقاهي الحمام التي كانت منتشرة في حماة
في القديم لم يكن لهذه الهواية مردود مادي لا بل يمكن اعتبارها خاسرة بسبب إطعام الحبوب للحمام أو بسبب موت الحمام لجائحة مرض أو لكبر السن
أما في وقتنا الحالي فقد تعاظم دور هذه المهنة لدى بعض الهواة حتى أننا صرنا نسمع بطيور أسعارها بأرقام خيالية و بعضها قد وصل سعره إلى ثلاثة ملايين ليرة سورية
جامع روث الحيوانات : في القديم و قبل انتشار وسائل النقل الحديثة كانت الخيل و الحمير و البغال هي وسيلة النقل الوحيدة إما للركوب أو لجر العربات و لكونها كائنات حية فإن فضلاتها تتكوم في الطرقات حيث يقوم بعض الأشخاص لا سيما الأطفال بتجميعها و بيعها لصانعي الجلّة .
و لتصنيع الجلّة يقوم العامل أو العاملة بأخذ الروث و مزجه بالماء و القش و التبن و عجنه جيدا و جعله على شكل أقراص دائرية أو بيضوية و تركه في الشمس حتى يجف حيث يتم بيعه لاستعماله كوقود في المطابخ أو للتدفئة .
مُشَمِّع الخيطان : إن صناعة الأحذية أصبحت صناعة دخلت التقنية الصناعية فيها إلى أبعد الحدود مثلها كمثل باقي الصناعات التي واكبت التقدم العلمي و الصناعي . إلا أنه في السابق كانت الأحذية تصنع يدوياً . ومن أجل تصنيعها كان يتم شدها بخيوط من القطن و لكي تكتسب هذه الخيوط قوة فقد كان يتم تشميعها .
كان الشخص الذي يقوم بتشميع الخيط يضع في يده قطعة من الشمع الأصفر الذي يستخرج من شمع العسل ويمتاز الشمع الأصفر المستخرج من العسل بقوته ومرونته .
يقوم الشخص بعملية التشميع من خلال ربط طرف الخيط بالجدار ثم يقوم بتمرير قطعة الشمع التي في يده عدة مرات على الخيط حتى يتماسك الخيط بشكل جيد و يصبح صالحا لخياطة الحذاء
المُقطِّع : في السابق و أثناء فصل الشتاء وعندما كانت تهطل الأمطار الغزيرة كانت السيول تجتاح حماة قادمة من منطقة الحولة قبل إنشاء السد فيها و هذا السيل كان يسمى الزودة . و كانت الزودة تخرج من قرية الحولة عابرة القرى حتى تصل حماة في أول باب طرابلس ثم تعبر من حارة الجسر فالمرابط ثم ساحة العاصي لتصب في النهاية في نهر العاصي . و إن آخر زودة من الحولة عرفتها حماة كانت عام 1954 . كان هناك أشخاص يسمون بالمقطعين و هؤلاء كانت مهنتهم حمل الأشخاص من طرف الشارع إلى الطرف الآخر وهم يخوضون بمياه الزودة ليقطعوا الشارع المليء بالسيل و من هنا جاءت تسميتهم بالمُقَطعين و هؤلاء كانت أيام عملهم معدودة خلال السنة لارتباط عملهم بتلك السيول التي قد تجتاح المدينة أو قد لا تجتاحها وكانت الأجرة التي يتقاضونها فرنكا واحداً للصغار وفرنكين للكبار .
جامع العَلَق : العَلَق جمع علقة و العَلَقة هي دودة يبلغ طول النوع البالغ منها 20 سم ولونها بني مخضر أو أسود مائل للرمادي . ويعيش العلق في مياه البرك و المستنقعات حيث تتغذى على الضفادع و الأسماك .
لدودة العلق محجمان خلفي وأمامي فالمحجم الخلفي يكون ليثبت على جلد الإنسان أو الحيوان أما المحجم الأمامي فهو لمص الدم من جسم الإنسان أو الحيوان . كان جامعو العلق يتوجهون إلى البرك و المستنقعات ليجمعوا تلك العلقات و ليبيعونها إلى الأشخاص اللذين يمتهنون مهنة الطب العربي . حيث يقوم هؤلاء بوضع العلقة على جلد الإنسان المريض لتباشر العلقة بامتصاص الدماء
وكانت العلقة تستخدم لعلاج عدة أمراض منها : منع حدوث التجلط و علاج ارتفاع ضغط الدم و علاج الأمراض الروماتيزمية و علاج طنين الأذن المزمن وغيرها من الأمراض
بعد أن تقوم العلقة بمص كمية من الدماء يتم قتلها كي لا تنتقل العدوى إلى جسم مريض آخر من خلال الدم الذي قامت بامتصاصه . إن مهنة جامع العلق هي مهنة محدودة ذلك أن الطلب على العلق كان محدودا بحد ذاته إضافة إلى العناء الذي يكابده جامع العلق و الحذر الذي يجب أن يتوخاه كي لا تلتصق العلقة بجسمه
و هكذا يتضح أن جميع المهن هي مهن لا يمكن اعتبار الواحدة مهنة ذات مردود كاف للمعيشة . لذا كان الشخص يقوم بعدة أعمال من تلك الأعمال الآنفة الذكر و غيرها ليؤمن قوت يومه و قوت يوم عياله . لذا كان يسمى مسبع الكارات و من هنا جاء المثل القائل ( كثير الكارات قليل البارات)
و إلى ذاكرة حموية جديدة
المحامي معتز البرازي
المزيد...