قراءة أدبية : التشكيل الموسيقي في مجموعة ( لاتنتظرأحدا) للشاعر محمد العزام

ستتضمن هذه الورقة التشكيل الموسيقي وصولا إلى الصورة الموسيقية ومن هنا أبدأ بأن المجموعة تنتمي إلى فئة الشعر الموزون وتنقسم بين العمود والتفعيلة حيث يشغل العمود فيها عشرين نصا بينما تشغل التفعيلة أحد عشر نصا.. وهذا يشير إلى تأثر الشاعر بالوزن الخليلي وثقته بقدرته على حمل رسالته وتبليغ شعوره وتصوراته.. ولاشك ان الموسيقى الشعرية تنقسم إلى عدة أقسام او تتشكل من عدة أنواع أولها الموسيقى الخارجية / البحر ودلالته وعلاقته بالمحتوى وهنا نلاحظ ان الشاعر مال إلى استخدام أوزان بحر البسيط غالبا ثم الكامل ثم الطويل وهي أوزان مواجة وحادة تناسب المضامين الفخمة ومن ذلك :
من بحر البسيط : تخفف الآن من طين الغواية واكسر باب قلبك ان الطين اغواء.
من الكامل : بيني وبيني ألف وجه شارع… ومدينة وأنا بهن مسيح
ومن الطويل :وهم سجدوا لي بي من الطين أمة.. أمد لها خوفي إلى خوفها غصنا..
فالشاعر في النصوص السابقة مثلا استطاع توظيف الأوزان المواجة لبيان معاني متعددة كالصراع النفسي والقلق الوجودي و الصبر وصولا بالنفس الشاعرة إلى ضفاف لغة هي ضالته التي تلهمه السلام وحدها فكان البحر متسقا مع الموضوع وفاعلاً في التشكيل الموسيقي
بينما ينزع الشاعر إلى الأوزان التيارية الهادئة في نصوص التفعيلة فيوظفها للإبانة عن معان شجية ورقيقة نحو:
هنا في التخوم البعيدة عن كل شيء.. سنحرس خيباتنا كل يوم ونقطع عن شجر الوقت أيامنا بانتظار شحذناه مثل الفؤوس.
فالغربة والانتظار والغياب والهجرة والحنين كلها معان شجية لاءمتها الموسيقى المنسابة التي اتسعت لاحتضان الدفقات الشعورية المتواترة في الديوان.
* * *
الموسيقى الجانبية و أقصد بها تلك التي تتشكل من القافية وعلاقتها بالموضوع وارتباطها بماقبلها.. فالمجموعة كما اسلفنا ذات نوعين من النصوص لكنها في معظمها مقفاة مما يشير إلى ارتكاز الشاعر علي العنصر الموسيقي في إيصال الرسالة الشعورية إذ تطغى في قصائد العمود القوافي المطلقة كما نجده يسخر في بعضها الروي والردف والوصل والخروج مجتمعة فيرتفع بذلك مستوى الموسيقى الجانبية ويخلق لذة لدى المتلقي من نحو كلمات مثل : يجرعها، يزرعها، يقرعها..
وفي مثل قوله :
الحي اوركسترا إذا ماجئته.
راح الممات بأسره يتموضع
والبيت الذي يليه حيث تتجاوز القافية هنا وظيفتها التأثيرية السمعية إلى تأثير بصري حركي مما يعني ان الموسيقى تساهم في خلق الصور الشعرية بشكل فعال وأدى الانسجام الكبير بين القوافي إلى خلق نوع من الوحدة بين أجزاء النص وإثارة المتعة لدى المتلقي : ساجدات ركع.
بينما يجنح في التفعيلة إلى القوافي المقيدة وهو مايتلاءم مع طبيعة تلك النصوص فالانتظار والغربة والغياب والهجرة و.. كلها مضامين شجية ورقيقة جاءت على شكل تداعيات حينا وفيض حينا آخر أو سرد في بعض الأحيان..
* * *
الموسيقى الداخلية تنشأ عادة من الخصائص الصوتية للحروف وتتجلى هذه الموسيقى في المجموعة بعدة صور منها بنية التكرار سواء في المفردة أو الجملة ففي نص اسمك تحتشد الحروف الاحتكاكية الرخوة والهمسية لملاءمة مقام الحب والبوح : يسيل من حدقات الناي، إذ قلت للياسمين اشرب حرير يدي لكي ترى كيف يغدو الشعر خلخالا..
في حين يستخدم الأصوات الشديدة والانفجارية في مواضع تخدم المعنى وتناسب المقام كما في :
ربابةٌ قمحهم،/ هم شذبوا لحية الوديان مذ عشقت،/ بمنجل الصبر لابالمعدن انهمرت..
وهذا يدلل على قدرة الشاعر وقريحته في الإفادة من الموسيقى بأنواعها ولاسيما الداخلية لاغناء الايقاعية في نصوصه. كما استخدم العزام بنية بديعية جميلة هي بنية الموازنة في نحو :
تبدلنا الأماكن كاليتامى..
ويكسرنا الجنون وأنت انتا.
ربابة حقلهم، والقمح أوتار
والقوس منجلهم، والغمر اشعار.
كما أسهم التصريع في اضفاء جرس موسيقى جميل نحو :
كيف صار الدفء بردا زمهرير
كيف لاح الحب شرا مستطير
وأيضا رد العجز على الصدر في نحو قوله :
الحب شكل اكوانا هنا بيدي
ما أجمل الحب إذ نطويه صلصالا
وكلها بنى تكرارية تضفي جرسا موسيقيا غنيا يتناسب والمعنى ليتحول إلى أداة جمالية تخدم الموضوع الشعري وتؤنس المتلقي.
* * *
وأخيراً الموسيقى المعنوية :
وتتميز عن سابقاتها بأنها نوع آخر من التنسيق يعتمد على أمور انتزاعية ذهنية، فالعلاقات الخفية بين العناصر المعنوية في الكلام تخلق الموسيقى المعنوية وهي ذات دور كبير في تشكيل الصورة الموسيقية، وأهم تجلياتها في مجموعة ( لاتنتظر أحداً) كانت بنية التضاد التي تحتشد بها المجموعة بشكل فاعل ومثال ذلك :
و انك حي رغم انك ميت
وغيرك حي هائم وهو بائد
وقوله
و غدا حراما.. وكنت احله..
واذا اتسعت رؤياي ضاقت عبارتي
فالتضاد يؤكد الكلمة من خلال استحضارالمدلول المعاكس لها فهو يشكل نوعا من التناسب الذي تميل اليه النفس البشرية وان كان تناسبا في السلب وتقوم هذه البنية على استدعاء الذهن لأحد الضدين عند تصور الاخر فالميت يستدعي الحي، والتحريم يستدعي التحليل وهلم جرا..
ومنه كذلك اسلوب التجاهل / الاستفهام البلاغي واسلوبا الأمر والنفي من نحو :
من خربشنا في حيط الخلق يتامى؟
من ذا ألهم اولنا الأسماء؟
لاترهق القفل فالاعداء قد مرقوا.
لملم بقاياك فالماضون قد عتقوا.
فهذه الصيغ الإنشائية أدت وظيفة بلاغية ذات طبيعة ذهنية أغنت المعنى جدا من خلال لفت انتباه المتلقي إلى أن ثمة إجابة مختلفة او مرادا مضمرا كما أضفت نوعا من الموسيقى المعنوية عبر التناسب القائم في العلاقات الخفية بين العناصر التي تشكل الفكرة او الدفقة الشعورية الواعية.
وفي الختام المجموعة غنية جدا تحتمل قراءات أخرى على المستوى الموسيقى لاسيما وأنها حداثوية الهوية وتحتاج غالبا إلى آليات في البحث مناسبة أكثر مما عملنا عليه.
ديمة قاسم

 

 

 

المزيد...
آخر الأخبار