كانت فترة الاستعمار الفرنسي التي عاشتها سورية ومرت بها من أسوأ الشقاوات وأعتى المحن, وكانت تمثل بحق مسيرة نضال أمة قادته الى نصر حقيقي , وثقافة مقاومة لشعب بطل أبيّ يعتز بكرامته وشرفه وحبه لوطنه.
وفي فترة الاستعمار الفرنسي كم تتشابك الصور وتتلاقى بوقائع الأحداث والمعارك لقوافل شهداء المجد والخلود . لتكتب صفحات ناصعة في سجل التاريخ النضالي .
فمنذ معركة ميسلون حين رفض البطل يوسف العظمة أن يدخل دمشق جيش غورو المستعمر وصمّم على ملاقاته رغماً أن لا جيش لسورية معه سوى من بقايا جيشه المسرح ومدنيين متطوعين وكان سلاحهم سيوفاً وبنادق قديمة وسكاكين ومناجل وبصدورهم العارية وجيش فرنسا مدجج بالطائرات والدبابات والمدافع وبعدد من الجنود يفوق ثلاثة أضعاف المقاومين السوريين . لكنها الكرامة السورية التي تأبى الذل والعار والاستسلام وقفت للمواجهة ولو بمعركة خاسرة غير متكافئة لكن الموت فيها بشرف, وكذلك كانت الصورة مماثلة في مجزرة البرلمان السوري يوم 29 أيار 1945 هذه المجزرة الرهيبة التي يندى لها جبين فرنسا المعتدية وكانت ملحمة بطولية ومفخرة لقوى الأمن الداخلي حامية البرلمان السوري , وقد كانوا نحو ثمان وعشرين شرطياً في مواجهة المستعمر الفرنسي الذي كان فيها بكامل قواته وعدته وأسلحته تماما كما في ميسلون . وكانت صورة المواجهة ملحمة تجسد فيها حب الوطن والدفاع عن السيادة , وكما رفض يوسف العظمة الإنذار الفرنسي وإهانة الشرف السوري كما رفض سعد الله الجابري « رئيس المجلس النيابي» إنزال العلم السوري عن البرلمان ورفع العلم الفرنسي وأداء التحية له وعلى الرغم من تهديد تطويق البرلمان بالمصفحات والدبابات واعداد هائلة من الجنود المشاة والسنغال , وكانت أيضا معركة غير متكافئة , استبسلت فيها حامية البرلمان من السوريين وكانوا بحق رجالاً أشداء طالت هامتهم وعزيمتهم السماء وبلا خوف واجهوا قوات المستعمر وصمدوا في وجه عمليات التدمير والوحشية ليسطروا إلياذة خالدة في النضال وينقلوا للعالم بأسره بصورة استشهادهم كرامة وعزة شعب سورية الذي يصبو إلى الحرية والانعتاق من سيطرة الاستعمار بكل أشكاله وألوانه .
نعم لقد صمدت حامية البرلمان أمام الهجوم الفرنسي إلى أن نفدت ذخيرتها وشبت الحرائق في المبنى وتهدمت أجزاء منه ليقتحمه الجنود الفرنسيون المدججون بالحقد والسلاح وأجهزوا على من بقي من عناصر الحامية بشراسة بل وقاموا بحرق جثامينهم بعد أن مثلوا بها، والأغرب من ذلك ولسخرية القدر وحقد فرنسا أن محطة فضائية هي فرانس 24 في عام 2012 م وفي أزمة الوطن والحرب الدائرة عليه قامت وبكل وقاحة ببث صور الجثث المتفحمة لشهداء حامية البرلمان عام 1945 م على أن هذه الصور حصلت في بلادنا خلال الأزمة الحالية في سورية فتصوروا درجة الحقد ! والجدير بالذكر أنه لم يقتصر عدوان الـ 29 من أيار عام 1945 يومها على مجزرة البرلمان بل شمل مدينة دمشق .
واليوم ومَن يمر بشارع الصالحية بدمشق يطالعه في بدايته تمثال البطل يوسف العظمة في وقفة الإباء والشمم , وعندما يتابع السير ويصافح بنظره مجلس الشعب عليه أن يدركْ أنه لا يقف أمام صرح معماري عريق يعبق بالتاريخ فحسب بل ويتذكر يوم 29 أيار من عام 1945ويتذكر البطولة أيضا يحدثك بها ذلك الصرح العظيم فلكل حجر منه حكاية، وفي كل ركن من داخله أسطورة وعلى جدرانه وبين جنباته ذكريات وأحداث ومشاهد تراكمت مع أيام وليال قديمة سجل من خلالها رجالات سورية تاريخاً عريقاً ناصعاً .
ولا تزال قاعة الشهداء في مجلس الشعب والتي تمثل معبرا ومنارة على طريق الاستقلال تضيء بدماء شهداء العدوان الفرنسي من رجال الشرطة الذين استشهدوا دفاعاً عن البرلمان .وإذا أتيحت لك زيارة هذه القاعة عندها ستترسخ لديك القناعة بأن بطولة رجال حامية البرلمان في ذلك الوقت ارتقت لتصبح درساً في الشهادة والتضحية لجميع السوريين ومثالاً يحتذى في البطولة والفداء .
واليوم تأتي ذكرى العدوان الفرنسي على مبنى البرلمان وسورية تشهد عدواناً جديداً ولكن بأدوات مختلفة ومن جميع أعداء سورية ولايزال شعبنا بجميع فئاته وشرائحه يضحي من أجل عزة وكرامة سورية والوصول بها إلى بر الأمان.
وكما صمد شعبنا وقاوم وصارع الاستعمار الفرنسي وقهره ورحل المستعمرون وبقيت سورية شامخة عزيزة مستقلة . تقف سورية اليوم بشعبها وجيشها الباسل المعطاء ومعها قوى الأمن الداخلي الشجاعة للتصدي للإرهاب وداعميه ومموليه ومستورديه وتلاحق القتلة الإرهابيين وتدك أوكارهم مخيبة آمال الأعداء وأحلامهم وستسقط المؤامرة ويندحر الإرهاب وتبقى سورية كما كانت على الدوام حصن لكبرياء العرب الشرفاء وقلعة المجد المكللة بغار الانتصار.
محمد مخلص حمشو
المزيد...