آخر كلمات راهب الفكر إسماعيل المير سليمان

زرت قفص ألمه وفكره المقيد بالانكسارات و الخيبات التي لاحقت أعماله فسرقها من تأمل خيرهم ..وأحبطه غدرهم …رافقته منذ وعيت على دروب الطفولة و الشقاوة .. زرته.. و قبيل أن يتركنا أنا و وجعه وحيدين في مساحات من الذكريات.
سألته: ألا تقول لي كلماتك الأخيرة ؟؟!!
أجابني : حلقي من ولادتي و حتى رحيلي يغصُّ بكلماتي الأولى ..فكيف بكلماتي الأخيرة ..كيف ؟؟!!
قلت : قلها و امضِ إلى عالمٍ نتمناه أنا و أنت أن يكون أجمل من عالمنا و أنقى .. قلها يا أبتي و امضِ ..
قال: كلماتي الأخيرة هي سبع كلمات .. اثنتان من بكاء و حنين ..و خمس من فرح و حياة. قلت: لمن ستقولها يا أبتي؟؟!!
قال لأحبائي : الأولى لـ ((رابعة السلمونية)).. التي عبرت ياسمينةً من بِشْر ٍ و طفولة. قلت له: قلها يا أبتي قلها !!
قال : يا قطعة من كبدي و ألمي ..بكيتك ..منذ خلقك الوعد في خاطري …نسمة من بوح العطر و الانتظار.. إلى أن حملتك فراشات الروح إلى عالم الطفولة و الوجع و النسيان ..بكيتك …حتى الضحك …أنت التي من كفيك خرجت الشمس كي تشرق كل صباح و تقعد أمامي قبل نهوضي من يقظتي ..
و تقول : ((أنت أبي … و أنا الحلم الشارد من قطيع انتظارك إلى مراعي النجوم ..و سهول الفرح التي لم تعتدها عيناك ..أنت أبي .. أسألك عن أمي الصابرة التي طهرتني بدموعها و صلاتها و بكائها .. و بشفاعة ألمها و وجعها توجتني أميرة في الفردوس .. أمي هذه ما هي أخبارها يا أبي ؟؟
أنت أبي ..اشتقت إليك في عالم من نور الأشياء التي تحيط كليتي بكليتها …اشتقت لحنانك الذي انتظرته كثيراً .. و قد آن يا أبي أن يضمنا معاً على حافة التراب و التجلي. و الثانية ((مصطفى غالب))…شقيق الروح المتصدعة! على سلم الأمنيات بكيتك ..منذ نقشنا أحلامنا على جلود الحقيقة ..و ذهبنا معاً صوب الألم و الانكسارات و الهجرة، أنت لخارجك و أنا لداخلي ..غربة لا تعرف إلا عهرها القاسي لحدّ الذبح … بكيتك ..ثلاثة أجيال من ضياع ..و كلما أمسكت قلم الروح لأكتب ..تطفر ضحكتك الجادة ..كقبَّرة من عناقيد كروم بري الشرقي التي تصيدنا في براريها عصافير أحلامنا ..فلاحقتنا قبل أن نلاحقها …لتركض أمام طفولتنا قبل أن تكبر في كأس نبيذ من العشق السرمدي للحقيقة و اللعب و الحلم … بكيتك .. و أنا نقيضك و توأمك الذي لم تلده أمك التي أرضعتنا القوة و التضحية و الشقاء المعرفي…. بكيتك و أنا شقيق روحك التي تجمهرت لتسمي الأشياء بأسمائها و ذواتها … بكيتك .. و أنت ورقي و حبري و قلمي ..و حين تهاويتَ إلى سمائك …أحرقتُ الورق ..و أرقت الحبر ..و كسرت القلم ..و لم أكتب سوى اسمك روحاً لي ..بكيتك ..و البكاء سفينة شوقي للرحيل إليك عبر مساحات شاسعة اغتربناها معاً ..و حنيني إليك واسع كسهول من ألم و بكاء بكيتك …و ها أنت السبَّاق للتحدي تدعوني إلى وليمة الموت كي نكون معاً .. نرسم أحلام المعذبين ..و نقهر سياط الجهل بغربتنا و وحشتنا و حنيننا للارتقاء معا إلى جنة من صنع الإنسان نزورها بأجنحة الفكر و الموت. الثالثة (( مريم)) عجينة روحي التي أحرقتها بوجعي فتألقت زهرة خلود في حياتي! أنت رغيف الطهارة الذي يغسلني كل صباح و مساء من أخطائي و خطيئاتي … أنت يا من بكينا معا الراحلين من ضلوعنا نحو التراب و التألق ..و عزفنا معاً على أوتار السؤال وصراخنا المكتوم شوقاً لأريجهم ..أنت طحين أفكاري و ماء روحي ..لولا صلاتك ما غسل الطهر أفكاري و عتقها بلهفتك و وجعك لأسميها تضحية. أقول لك وداعاً ..كي لا تتعفر أياديك بأشواك الألم أكثر ، كي لا تتكسر دموعك على شبابيك الانتظار أكثر ..أقول لك وداعاً …كي لا تتآكل روحك. هل أخطأتِ السهم إذ رميتِ حياتكِ فأصابني ؟؟ أقول لك وداعاً! واعذري ولادتي …اعذري طفولتي ..اعذري مراهقاتي الأبدية ..اعذري ألمي و عذابي و وجعي ..!! ولا يشفع لدي عندك سوى أنني كل عمري و بعد عمري عشت أحبك ..وها أنا ذا أتركك وديعة بين يديك …فهما سفينة من طهارة و صبر و حنان تأخذني من محيط آثامي إلى بر الأمان…فحافظي على الوديعة و عيشي عمرك من بعدي عمرين. الرابعة لـ ((المرأة)) رمز القهر و الجمال تركت أشرعتي تتمزق و تحترق و هي تأخذ سفينتك إلى بحار من الرقي و الحرية..! فاذكريني أيتها المرأة التي شكلت إنساني و أفكاري فكنت الأم و الأخت و الحبيبة و الابنة و الشهيدة و الشجرة التي لا تهرم في صدري حتى بعد أن بدأت ديدان الأرض تلتهمه .. ستصرخ حبات التراب و الحياة أنا سأقهر قهرك بالحرية ..حتى لو كانت حرية الموتى..أوصيك لا .. لا تستسلمي فأنت الحرية..! حريتك حرية كل الكائنات. الخامسة لـ ((سلمية))..رصيف العمر! هذا الرصيف الممتد من قرون و أمكنة وأزمان تتسكعه الحضارات ..تمشيه الحمائم كل َّصباح و كلَّ طيران .. كي تبكي هديلها المبحوح ، يفترشه الغبار في كلِّ الفصول كي ير حل من وحدته إلى وجوده … هذا الرصيف الذي تقيسه الخطوات الممتدة من تفتح الوعي عند الإنسان الأول ..إلى أن أحرقته المجازر و الحروب .. ليتفكك حجراً حجراً .. و على كل حجر تاريخٌ من الضحك و الانتماء و البكاء و الجنون و الشعر , و أسرابُ سنونوات من الوجع و الطفولة تغطي سماء فصولك بالفرح المؤقت ، و عصافيرٌ من مراهقة و نساء..ينزلن إلى سهولك و هضابك و حواكيرك ..ليحملن بمناقيرهن ..(بقَّ ماء) تنتظره أرضك و سماؤك ..كل حنين و شتاء سلمية .. رصيف من وجع المتنبي و عبقريته ، رصيف من مأساة ديك الجن و حرائق القرامطة و خيبتهم ، رصيف من بكائيات و غزليات و رثائيات أنور الجندي ، و بوهيمية سليمان عواد و تسكع إسماعيل عامود و غربة مصطفى غالب و أزاميل محمد الماغوط و قيثارة علي الجندي و شقاء و نكران فايز خضور و ذئبية خضر عكاري.. سلمية شتلة من طفولة شقية ترنو إلى السماء قبل الشتاء و تبكي وحيدة لعبتها و قصيدتها و صوتها المكتوم و هو يغني الحرية…و الجدران المهدمة بين أبنائها. السادسة لـ (( سورية))… حبيبتي و صديقتي و عاشقتي و خائنتي ! لأنها تعشق إنسانها قبلي و بعدي .

مهتدي مصطفى غالب

 

المزيد...
آخر الأخبار