القطيع يسير بانتظام, خطوات أفراده متقاربة في سرعتها والجميع يتابع بانتباه صوت الجرس المعلق على رقبة قائد الخراف.
وبين وقت وآخر.. كان بعض الخراف يشذ عن سير القطيع, ليقضم حزمة من الأعشاب المتناثرة هنا وهناك أو يلعق بلسانه من بركة تجمع فيها ماء ضحل.. لكنه سرعان مايعود إلى مكانه، عندما يرى الراعي متجهاً نحوه وهو يلوح بعصاه الغليظة.
وكان الكلب (نمرود) يسير خلف القطيع, يلاحظ بعيينه ويتابع بأذنيه أية حركة تنذر بالخطر. وكثيراً ماكان يقف وهو يحرك ذيله بقوة حين يحمل له الهواء رائحة غريبة..
و(نمرود) قد يركض من مكانه خلف القطيع, ليلبي نداء صاحبه الذي يردد اسمه بلهجة خاصة، وقد يغير مكانه أيضاً حين يلاحظ خروج خروف عن المجموع, فيساعد بنباحه في إعادة ذلك الخروف إلى مكانه.
وكان الجميع عائدين من المرعى, بعد أن أرخى الليل سدوله, وبدأ الظلام يخيم على الدرب الطويل.
وكانت النعجة (صبورة) تسير بخطوات بطيئة حيناً, وبخطوات سريعة حيناً آخر.. كانت آلام المخاض التي أتتها على غير انتظار.. يبدو أن الراعي لم يحسب حساباً لولادتها رغم كبر بطنها وتثاقل مشيتها, فقد أخرجها مع القطيع إلى المرعى, ولم يعطها انتباهه خلال سيرها معه!
وازدادت آلام صبورة, اصبحت لاتطاق.. ولكنها تحاملت على نفسها حتى وجدت كومة من التبن الجاف عند طرف الدرب، فهرولت إليها بعد أن اطمأنت على أن الظلام سيمنع الراعي من رؤيتها.
توقف نمرود.. نشر اذنيه جيداً, فقد أحس بأن شيئاً ما قد
حدث تلك اللحظة.. دار حول القطيع دورة كاملة ثم انفتل وهو يلهث باتجاه كومة التبن.. هناك .. كانت صبورة تترنح فوق الكومة، وقد شلت آلام المخاض حركتها.
كشر نمرود عن أنيابه, وأطلق نباحاً قصيراً.. كانت الريح المعاكسة تهزأ من صوته المضطرب فحالت دون وصوله إلى الراعي الغافل..
وتردد نمرود.. هل يترك (صبورة) ويركض إلى صاحبه, أم يبقى معها ينتظر الحدث الجديد؟..
لكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى وقع على مؤخرته وهو يسحب ذيله فوق التراب الرطب.
وصل الراعي إلى القرية .. كانت أمه تهيئ العشاء.
ولكنه قبل أن يتناول لقمة واحدة, شعر بغياب نمرود.. ثم أليس من عادته أن يملأ الدرب نباحاً حين يلتقي بكلاب القرية!
أدرك الراعي أن شيئاً ماقد حدث.. فأسرع إلى حماره وتوجه نحو الدرب الذي كان قد عاد منه..
أحس نمرود بأن هناك من يقترب.. فنبح بشدة وسط الظلام لكنه حين عرف القادم هزّ ذيله وتواثب أمامه وهو يومئ برأسه إلى كومة التبن هناك..
كانت صبورة مضطجعة مستسلمة وقد انحنت على حملها الجميل تبلل بلسانها صوفه الأبيض القصير.. واتسعت ابتسامة الراعي, بينما كانت كفه الكبيرة تمسح رأس نمرود بحنو بالغ.
د. موفق أبو طوق