المدن الكبيرة وعلى اختلاف مساحتها تحتضن في معظمها ساحات عامة تشكل رمزاً للمدينة , وهذه الساحات تعتبر مكوناً أساسياً وهاماً لأي مدينة ناجحة ومعلماً بارزاً منها ، فالساحات في قلب المدن تجمّلها وتجعلها نابضة بالحياة . وعلى الأرجح هي الأكثر زيارة للناس ومرورا فيها ، وعادة ما تكون مزدحمة. وكانت تتعدّد الوظائف التي تؤديها الساحات العامة داخل المدن عبر العصور ، حيث كان الناس يتقابلون فيها ويتبادلون الأنباء مثل مقهى ابي الفداء في ساحة العاصي بحماه قديماً ، وكذلك يقيمون الاحتفالات ويقدمون عروضهم في المناسبات كما ويعرض الباعة فيها بضاعتهم . بعض من الساحات كانت ذات قيمة تاريخية , وبعض من ساحات أخرى تمزج فيه بين تأمين المتطلبات الثقافية والترويحية والخدمية في آن معاً , وفي أغلب الحالات فإن الساحات العامة تحيط بها المقاهي والمطاعم وأحيانا دور حكومية ومحال خدمية.. مثل ساحة العاصي من حماة . وترى في بعض من الساحات في فضاءات اسمها عبر مرور التاريخ قد تغلغلت في الضمير والوجدان لتخلد في الذاكرة وذلك بما يُفضي اسمها من حكايات وأسرار وذكريات تشكل بمجملها ذاكرة المكان حيث تشم منه عبق رائحة التاريخ .
وللأماكن أرواح وظلال وتلك الأرواح تُستمدّ أصلا من الناس ,فبعض من أماكن الساحات تعتبر مهدَا للثورات وشاهدةً عليها فهي تحمل في كلُّ بقعة منها حكاية إنسان تسمَّر فيها ابتغاء حرية أو رد اعتبار أو قارع فيها مستعمر.. كساحة النصر لمجاهدي حماة من مدخلها الجنوبي عند النصب التذكاري « ففي الثلاثين من أيار 1945م حصلت فيها ذروة المعارك وهي معركة عين اللوزة حيث تكبد فيها المحتل خسائر فادحة من مصفحات وعربات عسكرية وطيران وجنود وقتل قائد الحملة وبعضا من أعوانه ولاذ الباقون بالفرار.
وكأني كلما مررت بتلك الساحة أسمع صدى ترديد أحجارها لنشيد الثوار: بعين اللوزة ياما صار بين العسكر والثوار والعساكر صبت نار وهزمنا هم ع المطار و « يشهد علينا باب البلد وعين اللوزة والمقبرة ذكريات يذوب لها القلب وتذرف لها الدموع حبا وحنينا ولهفة لشعب اتحد بجميع فئاته وشرائحه وعقائده حتى تحقق الجلاء وإذا دلفت نزولا من ساحة النصر واتجهت شمالا عبر شارع العلمين فستنتهي عند ساحة الحرية حيث دار الحكومة والمركز الثقافي والبريد وتنتصب فيها ساعة حماة تحفة معمارية شامخة فهي إلى جانب تعريفها بالوقت ، فقد تحولت إلى معلم أثري كنواعير حماة تزين الساحة التي تطل عليها شرفة دار الحكومة والتي كانت تتخذ لإلقاء الخطابات وقد أطل منها زعماء تاريخيون مثل جمال عبد الناصر وتيتو والرئيس حافظ الأسد كما تقام فيها أيضا وفي المناسبات كأعياد الربيع ومهرجانات استعراض الخيل والفرسان حيث كانت تغص التجمعات الجماهيرية.
وإذا اتجهنا من ساحة دار الحكومة غربا وسرنا قليلا فستفضي الى ساحة العاصي حيث فندق أبي الفداء سابقاً، والذي نزل فيه طه حسين والشاعر احمد شوقي وشخصيات هامه غيرهم من سياسيين وأدباء , وعلى الرغم من صغر مساحة هذه الساحة اعتمادا على مساحة ساحة دار الحكومة الحالية الا انها تبقى الأشهر بين ساحات المدينة المتعددة فهي صاحبة الاسم العريق وسيدة من يروى عنها حكايات فهي تضم في طياتها تراث المدينة . ساحة العاصي شهدت عرضا عسكريا حضره أديب الشيشكلي والملك سعود , كما كانت تشهد احتفالات أعياد الربيع كما شهدت قبلا وفد الكتلة الوطنية وقتذاك الذي كان قد قدم من باريس حاملا معه معاهدة الاستقلال وكان حاضرا فيه ابراهيم هنانو وأعضاء الوفد و كانت تعرض أمامهم الفرسان وخيولهم الأصيلة ابتهاجا وفرحا بتلك المناسبة , ومن جسر المراكب القريب تنطلق القوارب في العاصي بنزهات نهرية ومن مقهى جسر المراكب صدحت بأغاني الطرب المطربة منيرة المهدية وبديعة مصابني والسيدة أم كلثوم , كما وكانت تلقى الخطابات من على شرفة فندق نهر العاصي الذي أزيل فيما بعد وقد سميت الساحة بالعاصي تخليدا للنهر الذي وهب المدينة الحياة وهو يجري بقربها من المكان وهي تطل عليه وعلى منظر فريد قل نظيره في العالم حيث ناعورة المأمورية وناعورة الجسرية وسط خضرة زاهية وأشجار باسقات وقبة قصر العظم وفندق أفاميا الحضاري حاليا اليوم وعلى طرفها حديقة أم الحسن في منظرها البديع ، واذا سرنا جنوباً من ساحة العاصي فستطالعنا ساحة المرابط في فسحة تتوسطها بحرة يخجق فيها الماء أمام خان رستم باشا وكم شهدت هذه الساحة من عراضات للاشتراكيين وكان بناء أبو ربعية مقراً لحزبهم وعراضات التحرير العربي وكان مكتبهم في بناء مدخل زقاق الوتار وكانت خيرات الريف والبدو تصب في هذه الساحة من سمن وجبن وعسل وسمك وسلور الغاب . ثم إذا تابعنا السير شرقا فسيطالعنا ساحة باب البلد وبحرتها وهي تقع أمام مدخل سوق الطويل ويجتمع في هذه الساحة القادمون من ريف حماة الغربي وينزلون خيراتهم فيها للبيع ..
حتى إذا ما خرجنا من ساحة باب البلد وتابعنا السير فسندخل عندها ساحة الموقف عند جامع المسعود وفي هذه الساحة كانت تباع الخضار والفواكه والصوف والسمن أيضا وكان ينصب فيها سيرك وأحياناً خيمة أبو عباس مروض الضباع .
ونخرج من ساحة الموقف ونتابع السير عندها سنمر في ساحة باب طرابلس حيث كانت هذه الساحة تستقبل القادمين والمسافرين إلى طرابلس ومنها تشحن البضائع ولساحة باب طرابلس ذكريات جمة منها مرور الزعيم إبراهيم هنانو فيها واستقباله من الكتلة الوطنية قادما من دمشق , كما شهدت هذه الساحة مواجهات بين الثوار والاستعمار الفرنسي في معارك ضارية حامية الوطيس , حتى إذا تركنا ساحة باب طرابلس وصعدنا الطريق شمالاً الذي يوصلنا إلى ساحة المحطة حيث محطة قطارات حماة وكم شهدت هذه الساحة من مستقبلين ومودعين وشخصيات سياسية مرت فيها كما أن مرجاً لها كان مرتعاً للنزهات .
نتابع نزولاً عن طريق الجراجمة فنصل إلى ساحة المدينة أمام الجامع الكبير وكانت الساحة ملعبا للشباب .
حتى إذا تابعنا السير وعرجنا ناحية المغيلة وخرجنا منها شرقاً ودلفنا شارع الدباغة ثم تابعنا نزولاً فسنصل إلى ساحة العاصي. وأما في منطقة الحاضر فأذكر ساحة الحاضر عند قهوة جلالة وحولها الباعة ومدخل سوق برهان وكانت تضج بالمارين والباعة وساحة المناخ عند جامع المناخ وقبلها ساحة التكية عند جامع التكية . ولن نتحدث عن ساحات صغيرة في فسح الحارات كجورة حوا وساحة سوق الشجرة عند جامع الدنوك وساحات في بقية حارات المدينة لكنها صغيرة تخص حاراتها المجاورة كان للنسيج العمراني السكني المحيط بجميع ساحات المدينة وميادينها مناطق مفتوحة حيث كانت دور عربية قليلة الارتفاع في البناء لا تحجب متعة الرؤيا والمناظر فالأفق كان مفتوحاً , وكانت الساحات تخدم سكان الأحياء المجاورة وقاصدي المنطقة .
ساحات حماة مازالت كما أنشئت فهي تبدو تراثية تاريخية لم تطلها لمسات التطوير ولم يوفر مجلس المدينة ساحات حديثة إلا القليل القليل منها ساحة الكرة الأرضية أمام انطلاق البولمانات وفوقها ساحة دوار بلال , أو بعض الساحات في مدخل حماة الشمالي طريق حلب دوار السباهي الجميلة الواسعة , أو في حي الشريعة , فالساحات الحديثة يلزمها أماكن مهيأة لجلوس كبار السن والشباب، ومسطحات خضراء ومظهر عام منسق بالأشجار والنباتات والزهور، دورات مياه للرجال والنساء، مواقف للسيارات كما في دوار قلعة حماة حيث يقام مهرجان الربيع كل عام .
حماك الله حماة وحمى الله الوطن.
فاطمة صلاح الدين الكردي