نبع من الإبداع والعطاء..لم يكن غيمة عابرة في سماء الإبداع والموسيقا على الإطلاق.. . رغم التجاهل والنكران وِإدارة الظهر من قبل عصافير الغناء والتلحين في مصر، و التي أكلت علامات الموسيقى والمقامات والتواشيح والسماعيات والأدوار والطقاطيق سواء التي ألفها او تلك التي حفظها من كفه المعطاء والخيرة ليغادروه ويحلقوا بعدئذٍ بعيداً في الأعالي او ليحطوا فوق القمم الشاهقة
ذلك الموسيقي الذي فقد البصر في إحدى عينيه في سنوات طفولته الاولى ومن ثم فقده في الثانية وهو في أربعينيات العمر… والذي كان يلتقط المواهب من الشارع ويعلمها الموسيقى بالمجان كما قال عنه الشاعر المصري الشعبي أحمد فؤاد نجم.. وكما يروي عنه الشيخ إمام عيسى أنه التقطه طفلا من دكان حلاق كان يغني فيه، وكان كفيفاـً بلا أم وأب فأخذه وعاش عنده عشرين عاماً يرعاه ويعلمه الموسيقى ..
هذا الإنسان اسمه ( درويش الحريري) المولود عام 1881 والمتوفى عام 1957 ، تعلم تجويد القرآن والعلوم الدينية ، كماتعلم الموسيقى على يد الشيخ علي محمود والشيخ اسماعيل بكر ، لكن و من طرائف الحياة أن عاد أستاذاه وتعلما على يديه فنون الموسيقى..!! وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على نبوغه وتبحره وتمكنه في هذا المجال ، تابع تعليمه على يد كامل الخلعي وداوود حسني وكمال الدمشقي وأخرين، كما يذكر أنه تعلم الموسيقى على يدي خالد الذكر أبي خليل القباني، فدرويش كان عطشه إلى الموسيقى لا يروى ولا يحد، لم يكن يعزف على آلة موسيقية ولكنه كان يصحح وضع الأصابع على مخارج الأصوات كما لم تهبه الطبيعة حلاوة الصورة ولا الصوت ولكنه كان يغني بشكل صحيح وله كثير من الأعمال الغنائية بصوته الأجش حتى أنه سجل عام 1932نخبة من الأعمال الموسيقية وقدمها لمؤتمر الموسيقى العربية كي لا تضيع ، ومن أعماله على سبيل المثال لا الحصر ( حبي زرني- أنت سلطان الملاح – كحل السحر عيونا- املا واسقني- قم ولازم- بالذي أسكر من عرف اللما- ياغزالاـ ماس عجباً…الخ..الخ) وأعماله موجودة على اليوتيوب لمن يريد.، كما أنه أثر في تكوين عبد الوهاب الفني كما يقول خيري شلبي في كتابه (صحبة العشاق ) أن للحريري فضل في تكوين شخصية عبد الوهاب الفنية وغنى عبد الوهاب من ألحانه( أحب أشوفك) وكذلك لور دكاش ومحمد قنديل وغيرهم.
عين كمدرس في معهد فؤاد الأول لتدريس الموشحات الأندلسية، بل كان مرجعية موسيقية وأثر في كل من تعلم منه الموسيقى ووضع أوزاناً غير مطروقة، ويحكى عنه أنه أول من لحن في مصر من مقام حجاز كار وأنه كان مرجعية موسيقية، وأنه كان ينقح ألحان الملحنين ، ولاغرابة في ذلك فهو لم يلقب بشيخ الموسيقيين أو بالاسم الأشهر والأكثر تعبيراً عنه ( أستاذ الأساتيذ) عن عبث، فمدرسته التعليمية لم يتخرج منها سوى الكبار والعمالقة فقط،ولكي نتأكد من صحة اللقب الذي لم يكن تزيينياً أو مكياجاً يخفي العيوب ومكامن الضعف ، بل يعبر بدون أية مبالغة، تعالوا نرى تلامذته الذين أكلوا من كفيه وللأسف تنكر أغلبهم له باستثناء الشيخ إمام والذي كان أكثرهم اعترافاً لفضله عليه:( سيد درويش- فتحية أحمد- زكريا أحمد- سيد مكاوي- محمد عبد الوهاب- أبو العلا محمد- رياض السنباطي- بليغ حمدي- عبد الحليم نويرة- القصبجي- الشيخ محمود صبح وغيرهم)
حين سئل الفنان إمام عيسى: وهل تعلمت أم كلثوم منه الموسيقا.. أجاب أنها لم تحظ بهذا الشرف…!!
نضال الماغوط