قضايا جمالية : ذروة الإبداع الشعري

ليس بخافٍ على أحد أن الطاقة الإبداعية معين ثر لا ينضب، فهي تولد الكلمات التي تتسق لتبدع صوراً غاية في الإيحاء والروعة. قامت الشاعرة الكندية أليسون آرمرز برصد ظاهرة الإبداع الشعري وسألت بعضاً من الشعراء عن ساعات أو لحظات الذروة الإبداعية، فخلصت إلى الآراء الآتية. وسأسوق هنا بعضاً من تلك الرؤى الخاصة. تقول الشاعرة البريطانية ليندا وليامسون إنها أنجزت معظم زفراتها الشعرية عند خيوط الفجر الأولى، حين تعم السكينة الخارجية والنفسية…فجلبة الحياة اليومية تختفي، ويسود الصفاء، فتأخذ الكلمات تقرع باب خيالي، فيستجيب، وتتوارد المفردات تباعاً وتكتمل القصيدة.
وترى الطبيبة الأسترالية كارن كلايمز أن استراحة نهاية الأسبوع هي الوقت المناسب لتسكب ما يجول في وجدانها من آلام وأمانٍ، لأنها تقضي طيلة أيام العمل في عيادتها والمشافي فترى ما يكابده المرضى وذووهم، فتزداد تجربتها الخبروية، وتتفجر في صبيحة السبت والأحد حين تجلس في حديقة منزلها ترتشف قهوتها الصباحية، فيناديها قلمها كي يكون الوسيط بينها وبين ما يعتمل في خاطرها المكتنز بأفكار ورؤى حياتية.
وأشار الشاعر بول إدواردز إلى أن لحظات الإشراق الإبداعي لا تنتظم في زمن معين أو حيز ما، فهي ومضات تخطر في باله، وحين تزوره، يضج خياله بمفردات تتناسب والموضوع الذي سيطرقه، وسرعان ما يمتشق قلماً ويكتب الكلمات المفتاحية التي يعود إليها ثانية فيطورها ويفيض عليها حين تتهيأ له أجواء الكتابة من سكينة ووحدة وصفاء ذهني وتلهف ليسكب ما في جوانحه من رؤى شعرية تجعل المتلقي ينهمك فيها ويتلذذ بمكنوناتها وتفاصيلها.
وأما الصحفي آدم هوبز فيذكر أن نفحات الشعر تأتيه حين تنضج في خياله الذي يعمل دوماً، لأنه يعنى بتفاصيل حياة الناس وهمومهم، لذلك لا ينفك خياله المشرق يعمل كي يصقل ما يعانيه ويخرجه قصائداً عامرة بالحياة وجزئياتها ودقائقها. إذاً، فالإبداع الشعري ما هو إلا إشراقات تؤتي أكلها كل حين. وأشار إلى فترات التصحر أو الجفاف الإبداعي، مؤكداً أن هذه الفترات ظاهرة صحية، فغرض الشعر مختلف كل الاختلاف عن كتابة التقرير الصحفي الذي يوظف الكلمات بمعانيها المعجمية ويقوم على إجراء استطلاعات واستبيانات وإحصاءات. لكن الشعر يستثمر إيحاءات المفردات بعيداً عن دلالاتها المألوفة. وأضاف قائلاً: من المتعذر-بل من المستحيل -قوننة الإبداع الشعري وتقعيده، فهو كالطائف الذي يومض في روح الشاعر معلناً أن القصيدة قد أوشكت على الاكتمال، وما على الشاعر إلا أن يستسلم لهذه الومضات لتجد مكانها على صفحات قصيدته.
وصفوة الكلام: هذا هو الإبداع الشعري، وهذه هي أسراره ومفاتيحه، إنه إلهام ووحي: يتبدى ويتمظهر حين تنضح القصيدة في خيال الشاعر، وما الكلمات والصور إلا لباس يزينها.

 

 أ. د. الياس خلف

المزيد...
آخر الأخبار