الخروج على النمطي والمتداول في الفنون واﻵداب إن كان عن بينة وقصد، ومن فنان أو أديب متمكن وعارف فذلك ديدن الكبار؛ فالنهر ﻻ يغادر مجراه إﻻ حين يضيق هذا المجرى عن استيعاب مياهه المتدفقة، وليس لمراعاة من لا يجيدون السباحة. لكن المشكلة في الذين يرتكبون الفواحش اللغوية والفنية دون أن يرف لهم جفن، ويظنون أنهم يجددون، وأنهم يضيفون إلى معاجم اللغة وأدوات الفنون.
مع أنهم ما أقدموا على ما أقدموا عليه إﻻ لرخاوة في مواهبهم، وضآلة في بضاعتهم المعرفية. وشتان بين قادر يحق له، وضعيف يدعي ما ليس من حقه. فما يسميه بعض النقاد بالضرورات الشعرية ﻻ يضير الكبار من الشعراء، ﻷنهم قصدوا إليها قصداً، لغايات فنية غالباً، وإﻻ كيف لنا أن نفهم قدرة طالب في التعليم اﻷساسي على أن يقيل عثرة المتنبي العظيم؟؟!!
لوﻻ أن المتنبي قد مارس عن قصد ما سماه النقاد التقليديون بالضرورة الشعرية !!!!
ومن هنا جاءت حملة (إبراهيم أنيس) الشعواء على الذين يقولون بالضرورة الشعرية، وعد كلامهم وصمة وصموا بها الشعر العربي وبعض كبار الشعراء العرب. أما إن ورد خطأ نحوي أو لغوي عند شاعر فحل فالأغلب أن ذلك من سهو الرواة أو من تصحيفهم.
وحسب (الفراهيدي) فإن الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاؤوا، وكل ما ورد في الشعر مما يخالف القواعد هو لغة خاصة بالشعر، لأن الظروف النفسية تحتاج إلى لون خاص من التعبير الملائم لها.
وحسب (أبو الطيب ): قد يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره، لا للاضطرار إليه ، ولكن للاتساع فيه. والملاحظ أن ما كان يسميه النقاد القدماء ( ضرورة شعرية) لا يشكل خروجاً عن الفضاء العام للغة؛ لكنه استخدام خاص للغة يتميز به الشاعر من سواه من الشعراء، ويتميز به الشعر من سائر فنون الكلام ، ذلك أن الشعر كلام خاص بالشاعر حين يستخدم اللغة استخداماً شخصياً حسب مقتضيات النص، شرط ان لا يصل الأمر إلى الحد الذي ذهب إليه (دوسوسير) حين عدَ كل كلام صحيحاً ينبغي قبوله من قائله، لأن هذا الزعم يقوض علوم اللغات جميعاً، وعلوم اللغة العربية خصوصاً، ويهدم الحائط الذي يميز النص الأدبي من سائر النصوص.
ولا يعود ثمة فرق بين كاتب وكاتب، ومتكلم ومتكلم، وتغدو النصوص كلها سواء مادام المتلقي يفهمها. وفي كل الحالات فإننا نرد الخطأ ولا نقبله كائنا من كان مرتكبه. أما إن كانت الضرورة الشعرية متعلقة بالأمور الفنية، وبأدوات الشعر ومقوماته، فهي ليست خطأ ارتكبه الشاعر وإنما قصد إليها قصدا عن وعي وسابق إصرار، بهدف التجديد والتطوير، أولم يقل (أبو العتاهية) مرة : أنا أكبر من العروض.
لذا فإنني أعد عبارة ( ضرورة شعرية ) مجرد لغو، يضمر اتهاما من ناقد يعتد بما تلقاه عن شيوخه، ثم أغلق تفكيره برتاجات من التقليد اﻷعمى، ولم يعد قادرا على قبول الجديد إﻻ على مضض، هذا إن قبل أصلاً. أما بغاث الشعراء فلا يقبل منهم ما يدعون أنه ضرورات شعرية، أو أنه تجديد، لأنه لا يعدو أن يكون أخطاء، تصل لدرجة الخطيئات، يجب أن يحاسبوا عليها أمام القضاء الفني واللغوي محاسبة عسيرة. وبناء على ما سبق أقول مطمئناً: ﻻ ضرورة في الشعر أو الفن، فالضرورة الشعرية مصطلح زائف رغم شيوعه، وعندما يحدث خروج ما فإن هذا الخروج إما أن يكون خطأ فاحشاً ناجماً عن قصور فني أو معرفي ، أو أنه يؤسس لجديد، إن كان صادراً عن معرفة وبينة؛ وﻻ شيء غير ذلك. وإﻻ تحول كل خطأ إلى تجديد (ولضاعت الطاسة) وعمت الفوضى.
محمد راتب الحلاق