الطفل والأدب

ثمة مصطلحات ما زالت ملتبسة رغم شيوعها وكثرة تداولها، ولاسيما المصطلحات في العلوم الإنسانية وفي النقد الأدبي، ومن ذلك مصطلح أدب الأطفال.
فهل المقصود به الأدب الموجه للأطفال أم الأدب الذي يكتبه الأطفال؟!! من جهتي فإنني أعد كل نص يتوجه إلى الطفل أو يتناول جانباً من جوانب حياته، داخلاً في شمول المصطلح، بغض النظر عن عمر كاتبه، كما أعد كل نص يتناول حياة المرأة أو جانباً منها داخلاً في شمول مصطلح (الأدب النسائي)، بغض النظر عن جنس كاتبه. ‏
والنص الموجه للطفل ليس نصاً مسطحاً أو ضحلاً، يقدم المعاني والقيم والحقائق بأسلوب خطابي مباشر شديد الوضوح، كما فهم ذلك بعض الكتبة، حين استوطؤوا حائط هذا النمط من الكتابة وظنوا أن مجرد صف الكلام وفق نظام معين، وحشوه بالأوامر والنواهي التي تدور حول شؤون الأسرة والمدرسة يجعل من هذا الكلام أدب أطفال!!!
والشواهد على هذا النمط من النصوص الرديئة، وعلى هذا النمط من الكتبة، منداحة على صفحات الجرائد والمجلات. ‏ النص الجيد، فيما أزعم، هو النص الذي يذكي خيال الطفل، ويقدم له القيم والحقائق في سياق فني جميل، مغلف بقدر من الغموض الشفاف، الذي يتناسب مع مستواه العمري والعقلي والمعرفي، مما يدفعه إلى المضي قدماً إلى ما وراء بنائه الظاهر، وإلى ما وراء المعاني القريبة للكلمات، بعيداً عن المباشرة الساذجة، وعن السطحية البلهاء.
فقد بينت دراسات عديدة في علم النفس أن الشعور بجمال النص والاستمتاع به يتألق ويتوهج مع الأعمال الأدبية والفنية البعيدة عن الوضوح الساذج والمعاني الخطابية المباشرة. ‏
والكتابة للأطفال ليست سهلة، كما يظن بعض الكتبة (مرة أخرى)، إذ على من يتصدى لهذا النمط من الكتابة أن يكون واسع الثقافة، مطلعاً على تراث أمته وتراث الإنسانية جمعاء، وأن يكون متمكناً من معطيات علم النفس عموماً، وعلم نفس الطفل خصوصاً، ولاسيما ما يتعلق بالنمو وخصائصه (النمو العقلي واللغوي والجسدي والاجتماعي والأخلاقي….)، مما يساعد في تقديم نصوص تتناسب مع قدرات الطفل العقلية والفيزيولوجية والمعرفية، وتتدرج مع ما يحرزه من نجاحات في مهارة تلقي النصوص. ولتجنيب الطفل الملل والرتابة لابد من تقديم نصوص ذات مضامين وتقنيات أكثر تعقيداً وتركيباً باستمرار، لنجلب له المزيد من المتعة: متعة المشاركة في الإبداع، ومتعة التخيل أنه المكتشف الأول للنص ومعانيه، من دون أن نسمح لليأس أن يتسلل إلى أعماقنا، نتيجة التقدم الذي قد يكون بطيئاً في البداية، والذي قد يصل في مرحلة ما إلى ما يشبه الإخفاق؟؟!!!. ‏
ومهارة تلقي النصوص الأدبية لا تعني حفظها وترديدها بصورة جيدة من قبل الطفل، وإنما تعني، قبل ذلك، قدرة الطفل على تذوق مواطن الجمال فيها، وقدرته على تقييمها وإعطاء رأيه الشخصي فيها، وهذا لن يتحقق إلاّ إذا كانت النصوص المقدمة للطفل مناسبة لنموه.
ولتعميق قدرة الطفل على التذوق لابد من إدارة حوارات معه حول النص تتصف بالديمقراطية والتلقائية، للارتقاء باستجاباته وعقلنتها. ومما يساعد في نجاح تلك الحوارات، ويزيد من فاعليتها، احترام أسئلة الطفل، بل تحريضه على التساؤل، وتقدير إجاباته والتعامل معها باهتمام، بعيداً عن التهكم والسخرية مهما بدت تلك الإجابات غريبة أو متهافتة أو غير منطقية.
ومما يساعد في نجاح تلك الحوارات (أيضاً) احترام خيال الطفل وإثارته بكل الأساليب الممكنة، واختيار نصوص مناسبة لتكون موضوعاً للمناقشة، وتشجيع الطفل على تقليب الأمور على وجوهها الممكنة جميعاً، وذلك بسؤاله: وماذا بعد؟ عقب كل إجابة يقدمها، مما يعوده على القراءة الذكية والواعية، التي لا تقتنع بالمعنى الظاهر والقريب، بل تحاول أن تبحث عن المعاني الممكنة الأخرى التي تقبع بين السطور، أو التي حاول منتج النص، أو حاولت اللغة عبر الصنعة الفنية أن تكبتها. وتعد جلسات (عصف الدماغ وقدح زناد الفكر) طريقة نموذجية لتدريب الطفل على التعامل مع النصوص الأدبية وعلى حسن تدبرها.
محمد راتب الحلاق‏

المزيد...
آخر الأخبار