قصة قصيرة : هناك.. في البستان الأخضر

في أول أيام الخريف، الجو غائم وجهه غير واضح الملامح، ريح باردة والشمس تتربع في السماء على عرشها، تبدو كملك فقد سلطته وبقي حاكما بالاسم فقط والأمر كله للغيم المكدس الرمادي…
استيقظ أبو جلال من نومه باكراً، رجل بلغ من العمر عتيا و وجهه يبدو كأي وجه من أهل هذه المدينة الأشقياء يغزوه بؤس رهيب، ذو لحية طويلة يرتدي نظارات كبيرة لا تبصر إلا متاعب الأيام، عيناه الغائرتان في وجهه تبدوان كلؤلؤتين ضائعتين في محارة تجاعيده تكاد لا تُرى لولا بريق الأسى فيهما، تخبرنا أن ستين سنة مرت على جسده كخيول تركض للقتال في حرب الحياة الطاحنة، كان من أول نتائجها تضوره جوعاً في كهل هذا العمر…
يريد أن يسجل ابنه في جامعة الطب ولكن على بعض درجات لم ينل مقعداً مجانياً، ولا سبيل إلى تحقيق الحلم إلا مفاضلة الموازي التي تحتاج إلى سبعين ألف ليرة سورية !
ربما تظن -عزيزي القارئ – أنه مبلغ قليل ولكنك لا تعيش في بيت بحجم علبة كبريت ولم تنم ليلة بلا طعام لأن الراتب انتهى منذ نصف الشهر، هذه المأساة لا تدركها ولا أستطيع أن أشرحها لك لذلك لن أطيل الحديث وأكتفي بالقول: إنه رجل عضّه الفقر.
لذلك ذهب ليستدين مالاً من جاره أبي أحمدَ الطيّبِ…
وصل إلى باب الدار وتردد في دقه، هذه أول مرة يطلب مالاً من أحد، رجل أبيّ تحسبه غنياً لعفته ولكن إن لم يستدن كيف سيدرِّس ولده؟
«لأجلهم نفعل كل شيء وإن كان ثقيلاً على نفسنا» ردد هذه العبارة ثم تشجع وقرع الباب.
استقبله جاره صاحب الوجه البشوش، وكان ميسور الحال، ويحب فعل الخير، ويده مبسوطة دائما…
فكان له ذلك وحصل على المال شاكرا!
ثم قرر الذهاب إلى الجامعة
كانت الشوارع مزدحمة…
عامل النظافة يدعو على من يرمي الأوساخ في الشارع…
فهي تطير كالعصافير في السماء …
و السيارات تكاد تصطدم ببعضها ويتبادل أصحابها الشتائم…
وهناك أطفال متسولون، يجوبون المدينة.. أهم صادقون أم كاذبون؟! لا ندري ولكن الجميع هنا يعاني من ارتفاع الأسعار، حتى إن التاجر يحلف أنها لا توفي معه !
وصل أبو جلال إلى الجامعة وبدأ يبحث عن الغرفة التي يتم بها التسجيل، دخل إحدى الغرف فوجدهم يلعبون الورق، فاعتذر على المقاطعة… ثم سألهم عن الغرفة ، وقالوا له توجه إلى الطابق الثاني…
صعد الرجل الدرج المتسخ
الشارع يبدو أنظف منه فهو يغسل بماء المطر.
قال للموظفة:
– مرحبا
-أهلا!
-أريد أن أسجل ابني في كلية الطب البشري.
– وأين المحروس لِم لم يأت طبيبنا الفذ بنفسه ليسجل!
– هو مريض، لذلك سأسجل عنه، وأوقف تسجيله حاليا.
– قل لي: ما اسمه؟
وبدأ يخبرها بالمعلومات اللازمة، وجرت الأمور كلها على أكمل وجه كما أراد…
وعاد إلى بيته مساء منهكاً لا يريد إلا أن ينام، وهو يحلم بأن ولده تخرج وفتح له عيادة وصار مشهوراً في كل المدينة !
في اليوم التالي نزل إلى السوق يريد شراء الأدوية، وهو خارج من السوق لمح ابنه يتسكع في الشارع فركض إليه وهو يصرخ: بني لماذا خرجت؟! ارجع يا حبيبي إلى المنزل أرجوك!
صحتك ليست جيدة اشتريت لك الأدوية كي تشفى بسرعة
ولكن لا أحد يجيب ربما كان شاباً يشبهه
فلو كان ولده لسارع إليه وقبل يديه
لكنّ أبا جلال تمتم: ربما لم يسمع ندائي!
عاد الرجل إلى الدار فوجد زجاج النافذة مكسور، قد عبث به أبناء جيرانه المشاغبين!
ألا يكفي أنه لا يستطيع النوم من أصواتهم المزعجة؟!
يا إلهي! كيف سأصلح النافذة؟!
اغرورقت عيناه بالدموع…
هناك ريح قوية ستهب في المساء، أخشى أن يصاب جلال بالبرد!
جسده النحيل سيرتجف وترتفع حرارته ولم يبق معي مال لدفع ثمن دواء إضافي.
بدأ يفكر ماذا سيفعل، وهو جالس على الكرسي، وقلبه يعتصر لقلة حيلته وضعفه، ما أقبح أن تكون عاجزاً عن دفع الشقاء عمن تحب !
لكن جلال طلب منه ألا يقلق فهو يستطيع إصلاح النافذة.
ابتسم الأب وقال: ولكن أنت متعب يا قرة عيني!
إلا أن جلالا طمأنه و ضمه إلى صدره وأخذ يتبادل الحديث مع ابنه
وعندما استيقظ من النوم
وجد نفسه مازال جالساً على الكرسي
شعر بالبرد فعلم أن النافذة مازالت مكسورة !
لابأس.. جلال المسكين سيصلحها اليوم، البارحة كانت الساعة متأخرة لذلك نام قبل أن يصلحها
ولكن لم يكن قد مر يوم واحد على هذه الحادثة بل أسبوع كامل وبقي الوضع كما هو…
– 2 –
لم يبق في الدار كسرة خبز حتى إن الفئران قد هاجرت منه !
شعر بالجوع فأخذ يبحث عن بعض النقود
عثر على ليرات قليلة فشعر بالفرح
وقرر شراء رغيفين لكن جلالا أصر على أن يذهب بدلاً منه
مرت الساعة تلو الساعة ولم يعد بعد
فكر كثيرا ثم قرر البحث عنه
رأى جاره فسلم عليه، وسأله: هل رأيت جلالا؟!
– قال الجار: لا ولله. أين سأراه؟!
-قد قلت له ألا يخرج ولكنه ولد طيب خرج رغم تعبه ليشتري الخبز.
-أنا أعطيك الخبز لا تقلق
-شكرا جزيلا لك! ولكنها الواحدة والنصف، يجب أن أعثر عليه!
– تمتم جاره: يا له من رجل مسكين!
أكمل الرجل سيره
وهو يسأل السؤال عينه:
أين أختفى؟!
أيعقل أنه عاد إلى البيت ؟!
عاد إلى البيت متأملاً أن يفتح جلال الباب له…
قرع الباب!
انتظر دقيقة كاملة !
ففكر، وقال ربما يكون نائما، ففتح الباب لنفسه ودخل.
مرت الأيام وفي كل يوم يخرج ويبحث عن جلال ثم يعود جاراً خيبته!
الحزن ينهش قلبه والناس لا تشعر به!
يسألهم عن ولده… بعضهم يضحك، والآخر يبكي، والبعض يسأل عن صحته وعن أمور لا معنى لها أمام مصابه.
قد حطموا آماله العريضات، وغدا «كمصباح الطريق يبكي ولا أحد يرى دمعاته «وشاعت قصته في المدينة:
رجل يفتش في الظلام الدامس عن كنزه المفقود يحمل قداحة تنير عتمة الليل…
لا أحد يبحث معه! لا أحد يشفي صدره المكلوم ويواسيه!
لا أحد يؤنس وحدته في هذه المدينة! إلا عنكبوت ما يزال يبني بيته وينسجه بخيوطه في إحدى زوايا البيت الاستراتيجية بالنسبة له!
في إحدى الليالي عاد متعباً يلقط أنفاسه، رمى بجسده على السرير، وأجهش بالبكاء.
سمعه جلال فأتاه مسرعاً وربت على ظهره قائلا: أبي ما بك؟!
فنهض بسرعة، و قال له: أين كنت يا بني؟!
قد تشققت أقدامي وأنا أبحث عنك!
كيف تختفي دون أن تخبرني عن مكانك؟!
ابتسم جلال، وقال: آسف يا حبيبي!
لن تشتاق لي بعد اليوم.
ما أجملك يا جلال! قد عاد إليك شعرك الأشقر!
تورد وجه جلال وأمسك بيده، وقال: فلنذهب معاً إلى ذلك البستان الأخضر اليانع حيث لا تعب ولا وصب، حيث الراحة المطلقة، والشعور الأجمل والأنقى!
فرح الأب وأغمض عينيه ليبصر ابنه بوضوح أكثر!
ومشيا معا ووالده يقص عليه ما حصل له في غيابه
ويحكي جلال لأبيه كيف هزم مرض السرطان أخيرا، هناك في البستان الأخضر هزمه فقط.
حلا حبال

المزيد...
آخر الأخبار