مكتبة الفداء : الشــــعر و النقــــد عــــند العــــرب

الشعر من أسمى الكتابات الفنية التي تتصف بالديمومة . كيف لا وهو لغة الروح وترجمانها . يحلق بالإنسان من خلاله إلى عوالم تنقله من عالمه الأرضي إلى أعلى عليّين. عالم مُتصوّر منشود لأن الشاعر يصوّر ما يتصور ويكتب مايتخيّل .
فكم من شاعر رحل وشعره بقي حيا بعد وداعه ليكون لسان حاله مادام في رئة الكون نفسٌ يتردّد ودمٌ بتجدّد.
قال الجاحظ : ( الشعوب خلدت ذكراها ببنيان القصور والحصون , أما العرب فخلدوا مآثرهم في شعرهم).
والنقد اصطلاحاً هو ( التعبيرعن رأي أو موقف في النظرة إلى الفن بأنواعه ) وعلى الناقد اتباع خطوات متسلسلة ومرتّبة، كالتحليل، والتفسير، والتعليل، التقييم والتقويم للخروج بصورة متكاملة عن النص المراد نقده لبيان ماله وما عليه .
في المقدمة والقسم الأول من الكتاب يبيّن أ. عدنان قيطاز أن غاية مؤلَّفه هو الجمع بين الشعر والنقد عند العرب شارحاُ قوافي الشعر بين ( التمكين) و( التوهين ). ومما ذكره كتاب ( الموشح للمرزباني ) و( أصداء رائية أبي نواس ) و ( قصيدة علي ابن الجهم ) و ( جمهرة من شعراء حماه ) على رأسهم ( ابن حجة الحموي) كما ذكر ( احمد شوقي ) و( عبد الكريم اليافي ). فالشعر/ في رأيه / كالنبوة لايزداد فيها الكذوب الا افتضاحاً وأن الأدعياء والكذبة ولصوص الأدب منظوماتهم برمتها هي ضربٌ من الفضائح , وأن الدراية والرواية لابد منهما لكل شاعر .
ويقصد بالدراية علوم اللغة العربية ناهيك عن امتلاك أدوات البيان الجميل وحيازة مفاتيحه أما الرواية فهي الإلمام بأشتات المعارف من الشعر قديمه وحديثه وعلى الشاعر المعاصر أن يكون مثقفاً موسوعياً . ولاغرو في ذلك . فلقد كانوا ينظرون قديماً إلى الشاعر على أنه مثقف عصره المتميز إن لم أقل الأوحد . لذلك كان الشعراء يقولون ( ليت شعري )/ أي ليت علمي /
ويضيف قائلاً : أنّ بعضاً من شعراء العصر لايحسنون بناء قصائدهم على أسس فنية ويجهلون تآلف اللفظ مع المعنى والوزن القافية في انسجام هارموني . ويورد على ذلك أمثلة مستشهدا بابن المعتز وابن أبي الاصيبع وابن حجة الحموي .
وبيَّن أيضا الفرق بين التوشيح والتمكين والتصريع . ويضرب على ذلك أمثلة للتوضيح من شعر امرىء القيس وصولا الى الشاعر مهدي الجواهري متنقلا في كتاباته ببيان رشيق في رحاب الجمال الفني مبيّناً رأيه في كل ماأورده . فقد تلمس / كناقد / من خلال مطالعته النقد الأدبي عند العرب أنه كان ملمّاُ إلماماً تاماً بتجربة الشاعر المتحدّث عنه وعن شعره بكل جمالاته الخفية والجلية مبنىُ ومعنىً . مفاضلاُ بين نص وآخر، وهذا لعمري صفة من صفات الناقد الحصيف المتميز .
وفي القسم الثاني من مؤلفه يتحدث عن أصول نقدية ويعرض فيها للموشح من الأصول النقدية عند العرب ضاربا المثل في المرزباني وشهرته عند أصحاب التراجم والبحث والتحقيق وكذلك يعرض للموشح وهو صاحب كتاب الإبانه الذي بشر بولادة النقد الأدبي . ثم عرض إلى القزاز القيرواني وكتابه في ما يجوز للشاعر وما لايجوز وفي القسم الثالث من كتابه عرّج في حديثه على تطبيقات نقدية فأورد أصداء رائية أبي نواس في الشعر العربي ثم عرّج على القصيدة الرصافية وعلى إسماعيل صبري شيخ الشعراء وعلى دمشق على لسان احمد شوقي منوّها بكتاب سهيل عثمان آخر شياطين الشعر وبواكير عبد الباسط الصوفي في أربع من قصائده .
ويختم أ. عدنان مؤلفه في القسم الرابع بوقفة مستفيضة عند الشاعر ابن حجة الحموي في ألوان تحسين الكلام مبيّناً أن الشعر والنقد في الميزان مرتبطان لأنهما صنوان وغير صنوين. نستطيع أن نلمس من كتابه (( الشعر و النقد عند العرب )) حرصه الدؤوب وسعيه الحثيث لكي يبين للقارئ في رسالة تلميحية مفادها انه يجب تحرير الفكر من إسار التقليد للانطلاق الى الابتكار والتجديد في أدب حديث يبتعد فيه عن أدب المحاكاة التي ظل يرزح تحت اعبائه مئات السنين وشكا بعض الشعراء منه ( مالنا نقول إلاّ معاراً) أو (هل غادر الشعراء من متردَّم ؟ ) لقد استطاع قيطاز أن يأخذ أخذ سمت القدم فيتأرض وأن يأخذ خذ سمت الرأس فيتسامى أعترف أن حديثي المختزل هذا لايعطي الكتاب حقه لكنه يمكن أن يكون بقعة ضوء لمن لم يقع عليه ليس إلاّ .
واقول مطمئناً إن مَنْ يطلع على هذا الكتاب أو على أي كتاب للباحث قيطاز يرَى أنه شاعر مجيد وبحاثة رصين وثقافية متنقلة لأنه لايرضى بالأفقي بل يسبر غور بحثه شاقولياً منقّباً في الأدب والتاريخ والتراث ماأمكنه إلى ذلك ساعيا إلى طلب المزيد من الزاد المعرفيّ لإيمانه بأن الإنسان عالم ماتعلّم فإذا ظن نفسه أنه علم فقد جهل .
جملة القول: نأمل من المولى أن يطيل عمره وأن يهبه الصحة والعافية «فهو علم من أعلام الحياة الأدبية . لقد كان الابن البار والوفي لبلده حماة المدينة التي أحبها وتماهي بها فكانت فكره وقلبه يحملها معه في حله وترحاله وكانت جرسا تعلق في فمه ينظم القصائد فيها ويكتب أبحاثه عنها وعن شخصياتها بحرفية فنية عالية المستوى مستفيدا من كل ماتقع عليه عيناه من دراسات ليثرى بذلك المكتبة الحموية ، بل قل السورية بل قل المكتبة العربية، لأنه وإن كان حموية الولادة ويفخر بذلك ونفخر نحن بذلك معه فقد كان عربي العطاء إنساني النزعة .
راداريّ الرؤية والرؤيا . له منا كل شكر تقدير ومحبة واحترام
محمد مخلص حمشو

 

المزيد...
آخر الأخبار