قف هناك..
اترك بناء البلدية العتيق وراءك..
اترك البحرة ونافورتها التي تثرثر ليل نهار..
اترك أشجار الكينا التي غطت السقوف.. وحجبت النوافذ العالية . بأفاريزها الحجرية النافرة، وانظر إلى الدرب الموغل جهة الشرق إنه يتسع مصاحباً النهر.. نهر العاصي!..
وما بين البساتين هناك تبدو الضفاف مزنّرة بالخضرة الداكنة تنعكس على صفحة الأمواه الناعمة ظلالاً وسكينة, قبل أن تتكسر بهدوء أمام نواعير البشريات الرشيقة(!)
ناعورة كبيرة ثم ناعورة أصغر منها.. ثم ناعورتان صغيرتان تتبادلان الهمس الشفيف.. تتبادلان النجوى الرهيف وهما في صحبة الماء المتحدّر من قناة تغوص بين البساتين, تغيبها عنك كثافة الأشجار وتعانق الأوفياء!!
أما التلة الصاعدة هناك.. فقد أطلت على المكان الآسر.. أعلنت توقها لهذا المشهد المتجدد كل نهار!!
ـ التلة هي تلة ( الشيخ بشر)!!
وليس الشيخ بشر إلا رجل من أهل الله!!
جعلوا له من المدينة مقاماً يشرف على النواعير!!
هذا المقام يشهد جمالاً ليس له نظير!!
والشيخ بشر الحافي حكايته ذات خصوصية لامثيل لها (!)
فقد علق قلبه وهو شاب غرير بفتاة !!
كان يديم النظر إليها.. يتسلق الأشجار .. ويصعد الدروب من أجل أن يظفر بتلويحة كف, أو هفهفة ثوب سابغ!!
لكن رؤياه التي رأها فيما بعد أشارت إليه أن يكف عما هو فيه.
وأن ينصرف إلى ( التمعن) في خلق الله, فترك ذلك, وامتثل لأمر رؤياه , وانطلق سائحاً في بلاد الله حافياً (!!).
والمدينة.. حماة.. تعرف مقادير الرجال .. تعرف أولياءها ومريديها. تعرف عشاقها ومحبيها, فتقيم لهم مقامات , وتُعلي لهم أسماء!!
و.. ما البشريات التي صارت متعة للناظرين , وسرحة للمتعبين المكدودين وملاذاً للعاشقين , ومجتلى للمتنزهين إلا مشهداً من المشاهد وملاذاً , رسمته الطبيعة الحالمة, وأتى على تفاصيلها العشاق والمحبون لهذه الأرض، ولهذا الوطن!!
هاهنا اجتمع النهر والشجر
هاهنا غرد الطير وابيض الحجر..
هاهنا دارت النواعير الأربعة .. لتلون المكان,ولتزيد
بترجيعها الأزلي أنشودة الزمان (!!)
تلك هي البشريات!!
تلك هي فينيسيا سورية!!
تأملوا هذه الصور الساحرة!..
أمعنوا النظر في تلك اللوحات الآسرة!
أية شفافية هنا.. بل أية عذوبة , بل أية رهافة ونعومة..
الألوان تندغم في كل ناحية.. وهذا الشيخ بشر الحافي يجوس المكان.
يلوب طيفه فوق الدروب, يجتلي أطراف الصورة الفريدة.
ويتقرى شفافية الألوان المتناغمة..
هذه الأماكن الآسرة صارت رمزاً للمدينة الساحرة .. صارت عنواناً للألفة والمحبة والجمال.. وهؤلاء الزائرون الوافدون يتملون من حسنها الباهر, يسبحون بجمالها العذري البكر, هؤلاء الميتمون بحب الأرض والوطن والناس.. عاشت بلادنا.. وعاش الأمن والأمان..!!
نزار نجار