إنه الأديب اللامع ( علي أحمد باكثير ) وقد ظلمه التاريخ لأنه جاء في عصر العمالقة في مصر : ( توفيق الحكيم ) و ( نجيب محفوظ )
و ( عباس محمود العقاد ) , ( يحيى حقي) وغيرهم . لكنه ــ برأينا ــ لا يقل شأناً عنهم وكان يقول عن نفسه ( توفيق الحكيم ) الأول في المسرح وأنا الثاني وهذا الحكم صحيح تماماً ولا غبار عليه .
ولد (باكثير) في أندونيسا في عام ( 1903) لأبوين حضرميين .
أرسله أبوه كعادة الحضرميين إلى (حضرموت) لتعلم اللغة العربية وأصول الدين ، التحق بمدرسة النهضة العلمية هناك وقرأ على عمه الشيخ ( عمر باكثير ) وقرأ مبكراً كتاب ( نيل الأوطان ) ( للشوكاني ) ( وسبسل ) ( السلام) (للصفاني) حمل لواء الإصلاح واستلم إدارة (النهضة ) بمدينته ( سيون ) وأصدر فيها (مجلة التهذيب) وكان يرسل بشعره إلى المجلات المصرية أنذاك ( كالهلال والمنار ) وقرأ الشعر القديم وكان يحب ( أبا تمام ) حباً جماً وحفظ ( شعر المتنبي ) .
فقد زوجته في ريعان الصبا بمرض عضال فلم يحتمل المصاب الجلل فانتقل إلى عدن ثم سافر إلى الحبشة والصومال ثم مكث سنة في الحجاز وهناك أصدر مسرحية ( همام أو في بلاد الأحقاف ) وهي دعوة للإصلاح الديني وتخليص الاسلام مما علق به من شوائب وابراز وجهه الحضاري .
كان أول إنتاجه الأدبي في ( حضرموت ) في مجال الشعر وقد قلّد ( شوقي ) ( في نهج البردة ) ولكنه لم ينشر أي ديوان وبعد موته جمعه أحد الأدباء في ديوانين هما ( ازها الربا في اشعار الصبا ) و ( صبا نجد وأنفاس الحجاز ) .
رحل إلى مصر في عام 1934 وتخرج في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة ( فؤاد الأول ) في عام 1939 ومنح الجنسية المصرية في عام 1951 .
درّس اللغة الإنكليزية والعربية معاً لمدة ( 14) عاماً في المدارس المصرية ، ثم انتقل إلى وزارة الثقافة وعمل فيها مع ( نجيب محفوظ ) و ( يحيى حقي ) .
تفتقت موهبته في مصر ولمع اسمه كرائد من رواد المسرح ، فمنحته الدولة منحة التفرغ وكان الرئيس (جمال عبد الناصر ) يحبه ويقدره ويقول : إنه قرأ له رواية ( واسلاماه ) مرتين لما فيها من التاريخ الشعبي وليس الرسمي لكفاح الأمة ضد الاستعمار . في هذه الأثناء كتب ملحمة ( عمر بن الخطاب ) وهي قصيدة طويلة في تسعة عشر جزءاً كثاني اطول ملحمة عالمياً .
يقول الناقد المصري (يسري عبد الغني) كان 0 باكثير ) كاتباً أخلاقياً ويقول الناقد والشاعر المصري (عبده بدوي) : كان الصدق منهاج حياته ويكره النفاق والكذب .
كان (باكثير) من رواد الشعر المرسل في الوطن العربي ولكن قلّما يذكر اسمه معهم ونعد دوماً (بدر شاكر السياب) و( نازك الملائكة ) و(عبد الوهاب البياتي ) ونفصل اسم ( باكثير ) ولذلك قصته يرويها بذاته فيقول : كان استاذ اللغة الانكليزية يشرح لنا (شكسبير) في رائعته (روميو وجوليت ) فخطر لي أن أنقلها إلى اللغة العربية شعراً مرسلاً فهناك إمكانيات في اللغة العربية لم تستثمر بشكل جيد ولديها غنى في نقل الأداب والعلوم العالمية وتفوق اللغات جميعاً بألوان التعبير فطرحت ذلك على الاستاذ فأجابني بشكل قاسٍ حيث قال ( كلام فارغ ) فذهبت إلى البيت متأثراً بهذه العبارة حتى أنني لم اتناول غدائي ورحت اترجم ( روميو وجوليت ) لشعر التفعيلة ونجحت في ذلك .
يقول الناقد المصري الشهير ( عز الدين اسماعيل ) يجب أن نضع ( علي أحمد باكثير ) كأول رائد من رواد الشعر الحديث المرسل .
كتب ( باكثير)/70/ كتاباً بين مسرحية ورواية وقصة ومذكرات . نال جوائز وأوسمة عدة منها جائزة ( قوت القلوب )وجائزة الدولة التقديرية في الفنون والآداب وجائزة الشعر في تكريم الشاعر ( أحمد محرم ) وترك تراثاً أدبياً ضخماً فمن المسرحيات : ( سر الحاكم بأمر الله ) ، ( فاوست الجديد ) ، ( سر شهرزاد ) ، ( أخناتون ونفرتيتي ) ، ( الفرعون الموعود) ، (مأساة اوديب ) ، ( الدكتور حازم ) ، ( مسمار جحا ) ، (روميو وجولييت ) ، ( ليلة النهر ) ، ( همام أو في ارض الأحقاف ) ، ( امبراطورية في المزاد ) ، ( حبل الفسيل ) ، ( حرب البسوس ) ، ( إله إسرائيل ) ، ( شعب الله المختار ) ، ( ابراهيم باشا ) ، ( الثائر الأحمر ) ، ( التورات الضائعة ) ، ( سلامة القس ) ، ( أبو دلالة )
( قطط وفيران ) ، ( قصر الهودج ) ، ( الفارس الجميل ) ، ( الفلاح الفصيح ) ، (عودة الفردوس) ، ( الشيماء ) ، ( شايلول الجديد ) ، (وإسلاماه!) ، ( شادية الإسلام ) ، ( اوزوريس)، ( هاروت وماروت ) ، ( مأسات زينب ) وغيرها …
ولابد أن نقف قليلاً عند ابداع وفن وفكر (باكثير) فقد استشرف بكتاباته المستقبل وأخضع المسرحيات العالمية لفكره الأخلاقي والإيماني فحّور فيها ، نأخذ على ذلك مثالاً: مسرحية (مأساة اوديب ) هنا يلعب القدر المحتوم دوره في أن يقتل ( أوديب ) أباه ويتزوج أمه ولكن (باكثير) جعل للأبطال تدخلاً في القدر فالإنسان يساهم في صنع قدره ولا يستسلم له بشكل مطلق فالإنسان في عرف (باكثير ) (مسير ومخير معاً) وينطلق كفاح المرء في ساحة التخيير ليغير شيئاً من واقعه وفي ( فاوست الجديد ) فاوست في الرواية العالمية يبيع نفسه للشيطان ولكن ( فاوست ) ( باكثير ) يرفض أن يبيع نفسه للشيطان .
في ( شايلوك الجديد ) و ( الثوراة الضائعة) و ( إله اسرائيل ) تعبأ ( باكثير ) باحتلال الصهاينة لفلسطين والمؤامرات العالمية التي حيكت لتوطين اليهود الصهاينة في فلسطين وهذا ما حدث . لقد أخلص ( علي احمد باكثير ) طوال حياته للمسرح التاريخي على عكس توفيق الحكيم ونجيب محفوظ اللذين غادراه إلى الهم الاجتماعي .
توفي ( باكثير ) في عام 1969 إثر نوبة قلبية حادة ، ودفن في مقبرة أهل زوجته المصرية .
رحم الله ( علي أحمد باكثير ) فهل توفيه الدراسات الأدبية والفكرية حقه ؟ نأمل ذلك في المستقبل .
د. محمد الجمّال