و… نحن صغار… كان الأولاد في الحارة، حارة النحاسين، يتنادون إلى باب النهر.. باب النهر…
وللنداء وقع خاص… للنداء سحر خفيّ يتسلل إلى الصدور.. ينسفح أمام الأعين التي تستدير باحثة عن باب النهر… أي باب… وأي نهر!!
***
القلوب الصغيرة اليافعة تنطلق بالمواجد..
القلوب الصغيرة تتوق إلى ملاعب الحرية…
القلوب الصغيرة تريد أن تخرج من الأقفاص.. إلى حيث المرح والماء والخضرة الزاهية، والناعورة التي تلقي بشجنها وأنينها إلى المكدورين.. والناعورة الكبيرة هناك تدور وتدور بطيئة.. متكاسلة، أحياناً، أو لاهثة مستعجلة، تنثر رذاذها على الفضاء الشفيف، تغمز لناعورة الدهشة أصغر النواعير، وتتيه دلالاً أمام النهر الذي يتدفق بسخاء!!
***
أما الطاحونة، هناك فهي شاهدة على كرّ الأيام وتعاقب الفصول… طاحونة باب النهر بواجهتها الحجرية وبابها العريض تستقبل زبنها كل يوم… وناقلو الأكياس الملأى ذاهبين آيبين فوق الجسر الحجري، والبغال مع من يقودها تروح وتجيء، وقد تركوا لها الأعنّة، لأنها ألفت الدروب وعرفت أدوارها جيداً، وصارت ضمن اللوحة الآسرة الفريدة!!
***
يبدو المنظر ساحراً وآسراً…
تلك القناطر الحجرية أمام المسلخ البلدي تحنو على العابرين..
منحنيات الضوء تنعكس على الوجوه…
أشرعة للحبّ تلوح…
والمنظر يتجدّد ساعة بعد ساعة..
والقناطر تنفتح إلى الدرب المفضي إلى الطاحونة
تسلمك إلى باب النهر…
والجسر الحجري المرصوف بمهارة وإتقان يتقوّس تحت الأقدام، ثم ينحدر رويداً رويداً إلى باب الطاحونة أو ينزل بك إلى جسر ثانٍ بدأت الأمواه تسيل فوقه!!
***
في المواسم المباركة مواسم الشتاء العامرة بالأمطار تختفي معالم الجسر تغوص تحت تدفق النهر وثرثرة الأمواه الغزيرة…
وفي المواسم العادية يغدو الجسر معبراً لمن يتوق أن يقترب من الناعورة الكبيرة السامقة!
كل شيء في هذه الناحية يشي بمهابة غير مرئية..
كل شيء يجعلك تشعر بتجدّد الحياة… وأنت تنقّل ناظريك بين الجسر والطاحونة والممرات الحجرية المفضية إلى الشمال حيث البساتين المتعانقة في الخضرة الداكنة!!
* باب النهر هو مفتاح الدروب الغائصة بين الخضرة الزاهية…
و.. النهر الصخّاب لا يلوي على شيء يمضي في طريقه الأزلي.. آمناً .. هادئاً تحوطه البساتين، وتتعانق فوقه أسراب الطيور.. والسماء الحانية..
من بعيد ترنو إلى المنظر الأخّاذ الفريد…
ها هنا الماء والخضرة والوجه الحسن!..
ها هنا ملتقى الناس بعد العصر…
هنا متنزههم..
هنا مستراحهم…
والطاحونة أوقفت صخبها وضجيجها..
الطاحونة هجعت بانتظار يوم جديد..
و.. المرج صار ملعباً للأولاد..
والجزيرة الخضراء التي تتوسط المكان… صارت ملعباً..
الجزيرة الخضراء احتضنت زائريها…
الأمهات يركضن وراء أطفالهن!
هل من أحد قبل دعوة النهر…
هل من صغير خطفه المنظر الفريد..
الأمهات وجلات على الأطفال..
الماء غدّار.. والنهر الصاخب لا يبالي..
والناعورة تنطلق في دورانها الشجي غير آبهة بشيء..
والعاصي يمضي.. ولا ينتظر أحداً..
والذاكرة تحفظ منمنمات المشاهد الآسرة..
ونداءات المكان… إلى باب النهر… باب النهر..
مازالت في الأذهان، لها حكايات ومواقف وأحلام.. يالها من أحلام!!.
نزار نجار