.. و.. هذا طفل اليوم !
هذا الطفل الذي أصبح العالم على أطراف أصابعه!!
هذا الطفل, وبضغطة بسيطة من اصبعه الصغير يستطيع
أن يعبر الفضاءات المفتوحة!!
ويستطيع أن يجوب بلدان الدنيا بلداً بلداً..
ويستطيع أن يطوف ببقاع الأرض بقعة بقعة..
ويستطيع أن يخترق شبكة الأنترنت.. وأن يغزو مئات المواقع في وقت واحد.. وفي وقت قصير!..
.. هذا الطفل .. طفل اليوم، طفل مختلف في كل شيء..
لم يعد يقتنع بالحكايات الساذجة!
لم يعد يقتنع أو يقبل بالقصص البسيطة الدارجة!
لمتعد تنفعه كتابات الواعظين, ولا تهويمات المرشدين ولادروس العارفين!!
لم يعد يبالي بالأحاديث القديمة التي لا أصل لها ولا فصل!!
لم يعد يهمه ماقال فلان وعلان..
كأنما هو على مبدأ أبي تمام الذي قال:
*ونفسك ـ قط ـ أصلحها /ودعْني من حديث أبي
و.. تلك الثورة العلمية تتضاعف فيها المعرفة..
تلك الثورة العلمية تدق بإلحاح ـ أبواب العالم..
تلك الثورة العلمية تتناسل فيه المخترعات ..
تلك الثورة العلمية تتوالد فيها ـ كل يوم ـ المكتشفات والمستحدثات !!
تلك الثورة العلمية ـ تقدّم في كل خمس سنوات جديداً..
بعد أن كانت تحتاج لذلك ـ من قبل ـ عشرات أو مئات الأعوام!!
.. صار العالم بين يديّ طفلنا قرية صغيرة!
أضحت الكرة الأرضية ملعباً كلها.. أمام عينيه..
بل صارت دكاناً.. حقيقية !!
والدكان تعرض ألعابها وأفانينها..و.. سحرها وبراءتها(!!)
لم يعد طفلنا بحاجة إلى بساط الريح..
لم يعد طفلنا بحاجة إلى الطبق الطائر.
لم يعد طفلنا بحاجة إلى مصباح علاء الدين..
طفلنا يستطيع ـ فقط ـ وهو مستلقٍ فوق الأريكة.
يعبث بجهاز ( الريموت الصغير) يستطيع أن يرى كل شيء!!
نعم ..كل شي صار تحت سمعه وبصره!!
و.. الصور تتدفق ..
و.. الألوان تنساب .. تتناغم مع الألحان.. تنسفح من كل صوب آلاف القنوات أو مئات المواقع .. تحمل إلى كل طفل أصنافاً من الثقافات.. وألواناً من المعارف والآداب..
تحمل إليه أفانين وأفانين من تراث الشعوب وذخائر الأمم!!
صار طفلنا يستطيع أن يكتشف تفاوت الأخلاق.
واختلاف المفاهيم وتباين القيم, وتنوع الفنون !!
..و.. تلك ثقافة الصورة.. تقتحم حياتنا ..
تلك ثقافة الصورة تهجم على أطفالنا هجوماً كاسحاً..
ثقافة الصورة تتسلل إلى القلوب والوجدان ..
ثقافة الصورة ترينا تباين الشرق والغرب, وافتراق الشمال والجنوب ..
هنا عالم من الرفاهية..
وهناك عالم من البؤس والحرمان..
هنا الترف والمسرّة..والبطر والكفر بأنعم الله (!!!)
هنا يدللون الطلاب .. وهنا يجرون المسابقات للضفادع والقطط!! وهناك من يبحث وسط الحروب والاقتتال والتدمير عن كسرة خبز أو جرعة ماء(!!!)
.. تلك صور من العالم..
هنا.. و.. هناك.. هذه.. وتلك (!!)
وثقافة الصورة غائمة عائمة.. ثقافة الصورة زئبقية رجراجة..
لاتستقرّ على حال..
طفل اليوم مختلف.. طفل اليوم كبر قبل أوانه, وعرف مالم نكن نعرفه ونحن أطفال في أضعاف عمره!!
وهذا زمن الكمبيوتر .. وزمن الأنترنيت وزمن الفضائيات المفتوحة فماذا يمكن أن نقدم له؟! ماذا يمكن أن نقدّم ؟! وهل عندنا مايتلاءم مع هذه الثورة المعلوماتية؟..
ـ هل عندنا فعلاً ماينسجم مع هاذ الانقلاب النفسي والوجداني في عقل الطفل؟
ـ هل هناك الكتاب الهادف الذي يحترم عقله وذكاءه؟
ـ هل يمكن أن نتعامل معه بعيداً عن أسلوب التلقين وحشو المعلومات و.. الوعظ المباشر. وقل.. ولا تقل؟!
ثم نسأل أنفسنا :
ـ هل نستطيع ألا نفرز أطفالاً سلبيين متواكلين, يعتمدون على الدروس الخصوصية, وهم يعانون من أمراض اجتماعية وسلوكية لاعدد لها ولا حصر؟!
.. تلك هي المسألة!!
و.. كتّابنا.. كتّاب الأطفال لهم خصوصيتهم ولهم امتيازهم .
كتابنا ـ بعامة ـ مخلصون.. عاملون دائبون, بل هم ـ على الأعم الأغلبـ جنود مجهولون يعرفون مايعرفون, ويدركون مايدركون.
ويفهمون ـ فعلاً ـ أن التطوير يجب أن يبدأ من الداخل, وأن يكون ممنهجاً ,ومدروساً, من الداخل أيضاً لا من الخارج!!
بلى.. التطوير يجب أن يكون من المضمون أولاً, ثم يلحق به الشكل ثانياً ..
التطوير يبدأ برفع المستوى الفني للنصوص.
التطوير يبدأ بإتقان أساليب العرض للأفكار والمواقف والقيم والمبادئ.
ثم.. يمكن القول أيضاً:
ـ إن لنا من تراثنا المشرق الأصيل بداية..
لنا من تراثنا الثرّ القادر على الإبداع من جديد..
ولنا من أصالتنا مايرسخ انتماءنا في وجدان الأطفال.
لنا من إبداعنا مايؤهلنا أن نكتشف أجيالاً جديدة من المبدعين!!
أدب الأطفال وثقافة الأطفال بين أيدي كتّاب مخلصين غيورين. هم يعرفون ـ اليوم ـ ماذا عليهم أن يفعلوا.. هم يعرفون كيف يحيون الذاكرة ويعيدون للنشء حكايات رموز الأمة ورجالاتها، وهم قادرون على أن يكون لهم الضمير الحيّ, والوجدان المخلص ,والحضور المشرق, يحملون مشاعل النور بعزيمة وإصرار لتسير الأجيال على الطريق الصحيحية في دنيا المستحدثات والمكتشفات، ولتكون الأجيال الصاعدة, الواعدة, أشدّ ثباتاً ورسوخاً وإخلاصاً لهذا الوطن ,ولهذه الأمة, لأنهم سيكونون أكثر عملاً, أكثر تفاعلاً مع كل مايستجد في الحياة المعاصرة..
نزار نجار