الطب النفسي .. علم يصارع العرافات والمشعوذين فمــا هو دور الصحــة النفســية فــي بنــاء الشــخصيــة..؟

تقول الحكاية بأن الأب طغى وتجبر على كل أبناء قبيلته باعتباره سيداً مطلقاً لها, لقد استأثر بكل النساء والملذات الأخرى واستولى على حصة التفكير الكاملة.
وحين ضاق الأبناء وشعروا بفقدانهم لكيانهم ماكان منهم إلا أن تآمروا عليه وقتلوه.. ثم التهموه حتى آخره، دون أن ينسوا أن يشربوا دماءه التي كان يهددهم بأنها مقدسة.
وبشكل جميل, يستطيع الدكتور ـ أكسم العبد الله الاختصاصي بالأمراض النفسية والعصبية .. تسخير هذه الأسطورة لصالح تحليله اللاشعور الجمعي، وحسب تصوراته يقع الإخوة بعد قتلهم لأبيهم تحت سلطة مشاعر غامضة, فهم لايزالون يشعرون بحقدهم على سلطة الأب، ومع ذلك فقد شعروا بعد الجريمة (المفترضة) بمشاعر قرابة رقيقة ومشاعر عاطفية جعلتهم يندمون على هذا الفعل، ويودون التكفير عن ذنبهم، بعد صحوة الفاجعة.
وطبعاً، حين لم يعد الإنسان يتمتع بتلك الوحشية الظاهرة نظراً لتنظيم حياته، فقد وجد أن القتل والالتهام, عملية لاتزال تسيطر على اللاشعور الإنساني.
ومن هنا يتم خلق التابو الاجتماعي الأخلاقي, رغم أن الإنسان في أحلامه يتواطأ مع لاشعوره الجمعي, ولكن الواقع يكبته وهذا الكبت يولد حالة من عدم التوازن بين مايرغب الإنسان وبين الواقع الاجتماعي الأخلاقي.
عودة إلى الحكاية
وفعلاً فقد عادت الحكاية (الأسطورة) على لسان شاب لتؤكد فكرة الدكتور أكسم, فاجأني شاب في الثلاثين من عمره بقدرته على المصارحة فقال: لو لم يمت أبي لكنت قتلته كانت عيناه تؤكدان أن حقداً دفيناً قد سيطر عليه اتجاه أباه الميت الذي انتزع منه كل شيء, حتى قدرته على التفكير ودفعه إلى ارتياد الأطباء النفسيين, ماجعله منبوذاً بنظر الناس الذين لايزالون ينظرون إلى المريض النفسي نظرة شفقة وريبة:
أصبحت شخصاً مختلاً في عيون كل الذين أعرفهم وفي مقدمتهم أهلي وأصدقائي, وصمت قليلاً ثم أضاف: أنا مخترع المصباح الكهربائي أثناء مرضه النفسي كان الشاب يصرخ أنه مخترع القنبلة الذرية التي بفضلها سيتم تدمير العالم.
نشأ الشاب في بيئة ميسورة لكن الأب كان بخيلاً جداً يحاسب أولاده على كل شيء حتى على تنفسهم, لم يكن سوى فزاعة لأولاده ويستطيع بنظرة واحدة أن يجعلهم يتجمدون في أمكنتهم, لم أشعر يوماً بأن هذا والدي, فمن غير الممكن أن يكون أي أب في العالم بهذه القسوة.
استطاعت الأدوية أن تخفف من هذا الفصام المرضي مع وجود طبيب معالج يخضعه لجلسات نفسية دائمة, لكن للأسف لم يشف الشاب تماماً, مازلت منذ ثلاثة عشر عاماً أداوم على الأدوية , وحين أتأخر على الدواء قليلاً أشعر بعدوانية تجاه الناس جميعاً.
ماذا يقول الطب النفسي؟
يدخل هذا المرض ضمن حالات الأمراض النفسية التي تكثر في المجتمعات أو البيئات المتخلفة نسبياً, ويقول الدكتور أكسم : إن مرضى الذهانات نادراً مايتوقفون عن العلاج الدوائي فهم كمرضى الضغط والقلب يصبح الدواء أساسياً لحالاتهم إلا ماندر, ويضع الدكتور أكسم نسبة /15%/ من الحالات الذهانية التي تشفى ولا تحتاج لأدوية وهي الحالات البسيطة ، وترى الدكتورة ميساء مخول اختصاصية بالأمراض النفسية والعصبية بأن الدواء لايلغى نهائياً, ثم أتت بنفس المثال عن مرضى الضغط والقلب الذين في حال توقفهم عن أخذ الدواء سيعود ضغطهم للارتفاع, وهنا تأتي أهمية الصحة ودورها في بناء الشخصية اجتماعياً ونفسياً.
العرافات والمشعوذين في مواجهة الأطباء النفسيين
رغم تطور الطب والأدوية, ورغم تقدم الإنسان, ما زال هناك من يصر على أن الدور الأساسي في معالجة المرضى النفسيين يجب أن يقوم به العرافات والمشعوذين, ليس الأمر متعلقاً بالناس البسطاء الأميين بل هناك أناس ذا تعليم عال يذهبون إلى المشعوذين والعرافات.
وهم على قناعة راسخة بأن المرض النفسي هو عبارة عن شيطان داخل إلى نفس المريض , وببساطة تستطيع العرافة أو المشعوذ أن يخرجاه بعدة عبارات غير مفهومة وببعض الحركات والإرشادات.
وحين يفشل المشعوذ في إخراج الشيطان المتمترس جيداً في العوالم المخفية والرافض للخروج فإن أهل المريض يتوجهون بمريضهم إلى العيادات النفسية, لأن كلمة مريض نفسي صعبة ومؤذية والغريق يتعلق بقشة.. لذلك كله إن دور الصحة النفسية هام في بناء الشخصية اجتماعياً وسلوكياً.
توفيق زعزوع

المزيد...
آخر الأخبار