نشر د. راتب سكر في صفحته مقاطع من مطولة نزار بريك هنيدي (الطوفان) وقد قدم لها بقوله:
قصيدة الطوفان للشاعر نزار بريك هنيدي صدرت عام 2001 ضمن مجموعة شعرية أخذت عنوان – تلك القصيدة – التي كانت أطول قصائدها، جاءت في نحو 35 صفحةً ، وشأنها شأن معظم قصائد الشاعر تنحو في بنائها الفني المؤسَس على نظريات الحداثة الشعرية في تجاوز ثنائية الفكرة والصورة ، للبناء بالصور جوهراً فنياً معتمداً ، واعتماد ما في الصور الفنية من بوح وإشارات ورموز إلى عوالم لاتقيم كبير وزنٍ للإخبار المباشر مادامت غاية الفن التوق إلى الجوهر الإنساني المطلق، توقاً لايقنع بمس ظواهر الأشياء والوقوف على عتباتها ، بقدر مايتوق إلى الهيولى الجوهرية لكل منها ، وإلى صلاتها بغاياتها المطلقة في الوجود .
هذه القصيدة تمس ظواهر الحياة لكنها منشغلة عنها بمطلق تتوق إليه شامل الرؤية بطبيعته الوثابة غير المستقرة إلى سكون راض بركود بحيراته .. فالجزر الخضراء بانتظار مغامراته في أعالي بحار فنه ورؤاه…
مقاطع من القصيدة:
الطــوفان
هَل كانَ علينا أن نَتَوَّقفَ قبلَ الآنْ؟
هَلْ كانَ علينا
أنْ نَتخلَّصَ مِنْ أعباءِ حمولتِنا
قبل الطوفانْ ؟
مَنْ يُنصِتُ – في صَحراءِ الروحِ –
إلى خَفَقاتِ جناحٍ
يَعبرُ فوَّهَةَ البركانْ.؟
مَنْ يَقطفُ -في حَلَكِ المنفى- الأقمارَ،
ويَنثرُها في جرحٍ
كادَ يُرَمّدُهُ شوقُ النيرانِ إلى النيرانْ.؟
مَنْ ذا
– بالرغمِ مِنَ التيهِ المتلاطمِ حولَ سفينتهِ-
مازالَ يُلَوّحُ بالأغصانْ؟
*
نَفَرَتْ أسرابُ الغزلانْ.
والغابةُ غطّاها الطمي المجبولُ
بغسلينِ الأحزانْ.
هَلْ كانَ النجمُ يشيرُ إليكَ
وأنت تمزّقُ ثوبَ الريحِ
وتحرثُ قاعَ الغَيْبِ
وتخترعُ الأزمانْ؟.
هل كنتَ هناكَ ؟
وهل كانتْ كفّاكَ تدقّانِ الأجراسَ
فتنفتحُ الأبوابُ
وتنهارُ الأركانْ؟.
هل كنتَ وراءَ ستارِ المسرحِ
تمسكُ بالخيطانْ ؟
أم أنَّ عرائسكَ الخشبيّةَ
ملّتْ لعبتكَ العبثيّةَ
فانطلقتْ
تتقرّى عريَكَ
في الظلّ المسفوح
على صمتِ الجدرانْ ؟
*
هَبَطَتْ كلماتُكَ مِنْ شَفَقِ المعْراجِ
ونامَتْ
بينَ البلّورِ الملقى
في قبوالحانْ.
سَقَطَتْ أزهارُ اللوحةِ
فوقَ كراسي القَشِّ،
وريشُ العصفورِ الذهبيّ
تناثرَ فوقَ الأرضِ
وكَفَّ الوقتُ عنِ الجَرَيانْ .
لا تخرجْ !
فالساحاتُ يُعَنكِبُ فيها البَرْدُ
وفي الحاراتِ يَسيلُ الخوفُ
وليس سوى أوراقِ النعيِ
على الحيطانْ !
أرأيتَ الغَيْمَةَ تهربُ
مِنْ قوسِ القزحِ المتدلّي
كالجنزيرِ،
فتسقط في جحرِ الثعبانْ ؟
لا تخرجْ !
فالقنديلُ يَنوءُ بشعلَتِهِ
والجوُّ سَديمٌ مجدولٌ
مِنْ أبخرةٍ سوداءَ
ومِنْ غَبَشٍ
ودخانْ.
*
يا أنتَ الواقفُ عندَ تخومِ طفولتكَ!
انظرْ !
مَرَّتْ أمواهٌ في النهرِ
ولمْ تجرفْكَ صروفُ الدهرِ
ولمْ تَطبعْكَ بطابعها الأيّامُ
ولمْ تتزحزحْ عَنْ أوهامِكَ
قيدَ بَنانْ !
فإلامَ تغطّي الشمسَ
بمنديلٍ مثقوبٍ
لمْ تَسكبْ دمعاتِكَ فيه
ولم تمسحْ عَنْ جلدِكَ ما خَطَّتهُ عليهِ
أشواكُ الحرمانْ.!
وإلامَ تُراوِغُ
في هذا الزمنِ الرغويِّ؟
وليسَ أمامَكَ غيرُ البحرِ
وليسَ وراءَكَ غيرُ البحرِ
وليسَ سوى
أشلاءِ جحافِلكَ الوَرَقيّةِ
تَفْتَرِشُ المَيْدانْ.
*
يا أنتَ الرابضُ عندَ المنبعِ
لَمْ يَتَبَقَّ لنبعِكَ غيرُ صليلِ حصاهُ
في الآذانْ.!
مازلتَ تمارسُ دورَ الراعي
والمرعى في جَوفِ الذئبِ
وأنتَ سجينٌ في الزنزانةِ
والزنزانةُ يحرسُها،
مَنْ كنتَ تُسَمّيهمْ حِملانْ !
يا أنتَ الراهبُ..
يا المتبتّلُ وحدَكَ في محرابٍ
عشَّشَ فيه الشكُّ
إلامَ تضمُّ يديكَ على جَمرِ الإيمانْ ؟
مَنْ يَسمعُ
– في هذا الصَمَمِ المتسرطنِ –
ترتيلاتِكَ :
حيَّ على الإنسانْ.
يا أنتَ السابحُ في ملكوتِ الوَرْدِ
تلملِمُ موسيقاكَ
مِنَ القَصَبِ المهجورِ
ومِنْ بَوْحِ الأعشابِ
ورَفرَفَةِ الأطيارِ
وهَسْهَسَةِ الغدرانْ.
مَنْ أنتَ لتلقي في البئرِ المرصودِ
رسائلَكَ السرّيّةَ؟
أو مَنْ أنتَ
لتخدشَ قشرَ الصخرةِ
بالنَغَمِ العريانْ.؟
*
مِنْ أينَ أتتكَ سَكينةُ نفسِكَ
في حَمَأِ الغَلَيانْ ؟
هَلْ كنتَ تحاوِرُ ؟
أمْ هَلْ كنتَ تناوِرُ ؟
أمْ هَلْ كنتَ تدرّبُ قلبكَ
كي يتغلغلَ
في لُجَجِ النسيانْ ؟
هَلْ كنتَ تفكّرُ بالزمنِ المتخثّرِ
حينَ صَعَدْتَ السلَّمَ
نحو بياضٍ
لا يتخلَّلُهُ ظلٌ
أو تدخلُ في تركيبِ سَبيكتِهِ الألوانْ ؟
وكأنَّكَ كنتَ تصوغُ هروبَكَ
من ثِقَلِ الإحساسِ
بأنَّ وجودَكَ خارجَ كلّ وجودٍ
أو أنَّ مدارَكَ خارجَ أيّ نظامِ سكونٍ
أو دَوَرانْ.
أنتَ المكتوبُ على لوحٍ
مِنْ نارِ الغيمِ
لماذا تبحثُ عَنْ آثارِ خطاكَ
على طينِ القيعانْ؟
وإلامَ تُدَحْرِجُكَ الآلامُ
على الصخرِ الأزليّ
وتسفحُ ماءَ صِباكَ
على عَتَباتِ معابدها، الأوثانْ.؟