كم النفس البشرية تمتلك من التناقضات المذهلة ! لدرجة تخال نفسك في عالم غرائبي, فهي قادرة على التحول بثوانٍ من مساحة شفافة بيضاء شديدة الطهر والبهاء, إلى مساحة شديدة الظلمة والقبح والوضاعة,ويحدث كل ذلك عبر مواقف متسارعة, وهذا ما حاول أن يرويه الروائي العالمي العظيم فيودور دوستويفسكي .
رسائل …أم بوح أسرار؟
بمحض المصادفة وقع تحت نظري ,على صفحة النت ,كتاب للروائي العالمي العبقري فيودور دوستويفسكي بعنوان (رسائل من تحت الأرض )ترجمة أنيس زكي حسن ومراجعة وتدقيق يوسف الطريفي .
الكتاب لا يندرج تحت مايسمى رواية,ربما هو أقرب للسيرة الذاتية. بحدود سبعين صفحة يقدم رؤاه للحياة بكل ما تحمله من بهاء وجمال وقبح وخسة ونذالة, هي عميلة نبش في خفايا النفس بكل تعقيداتها ,فتارة هو الفارس النبيل القادم من عصور سحيقة , وتارة أخرى ,هو الحاقد الوضيع الذي يتصيد صعود بعض الأصدقاء وهم يتألقون في رحلة حياتهم ,هو مونولوج كبير يبوح به ,وكأنه ممثل مونودراما ,يقف وحيداً وعارياً مشهراً روحه دون أي رتوش تجمل قليلاً مما يعتصر قلبه من سواد ,وكأنه يقف على خشبة مسرح الحياة , ولكنها مونو دراما بلا أحداث جوهرية , وإنما هي آراء يسوقها من خلال اصطدامه مع متاريس الحياة , آراء يبوح بها دون خجل أو مواربة ,في ذروة ضعفه أو في ذروة انكساره, ولأنه يملك الشجاعة الخارقة فقد رفع عالياً صوته ليعلن على الملأ مشاعر وأحاسيس متناقضة ومتنافرة .
في موقف جرى معه ,كان يمر قرب حانة وفجأة يتم رمي رجل مخمور من النافذة الزجاجة , يتملكه إحساس أن يعيش تلك التجربة القاسية والفظيعة بكل ماتحمله من غرابة، وخصوصاً عندما عرف أن الذي قام برمي المخمور ضابط قيصري , فيدخل الحانة مخاتلاً أمام الضابط ,ولكن الضباط لا يعيره اهتماماً , فيشعر وكأنه حشرة بلا قيمة , بل ويصر على توصيف نفسه بذبابة مقرفة ,نعم هي هلوسات جنونية عنيفة أحياناً ,وبسيطة أحياناً ,هي صفحات مكتنزة بالتناقضات الصارخة بروحه وعقله .
في القسم الثاني من الكتاب يقدم وقائع حياتية ,كان أسير سلوك عدائي لأصدقائه , ترى هل هي الغيرة والحسد والتجاهل لوجوده ,وربما كل هذا مجتمعاً ,يسرد علينا وقائع سهرة في مطعم ,شريطة أن يدفع كل واحد سبعة روبلات ,على شرف صديقهم الذي سيسافر إلى مكان بعيد من روسيا ,يحضر مبكراً للمطعم (قبل ساعة). لأنهم لم يخبروه بالموعد الجديد ,يحاول أن ينال من صديقهم المشترك ولكن الصديق يترفع عن الرد عليه ,بل ويكون أقرب وداً من الآخرين الذين يهاجمونه بطريقة وقحة , والمفارقة أن أصدقاءه (أو من هم بحكم الأصدقاء) ينالون منه بطريقة فظة .
يدين حضارة الغرب
ربما أجمل توصيف قدمه للغرب المتخفي بثوب الحضارة ,فيقول : ترى هل لاحظتم أن أشد الناس حضارة هم أمهرهم في الذبح وسفك الدماء . نعم هو توصيف للغرب الذي يشيد حضارته فوق جماجم الدول المتخلفة ,يسرق خيراتها ويستبيح دماءها وأرضها وسماءها ,ولا يتوانى عن ارتكاب أفظع المجازر بحق سكان تلك الدول البائسة ,وكل هذا يحدث تحت يافطة كبيرة ذات عنوان كبير براق, دفاعاً عن الحضارة الحديثة .
رسائل من تحت الأرض
وكأنه أراد إيهامنا بكم هائل من تناقضاتنا , رسائل تعني كل واحد منا بشيء ما , وكأنه يرسلها من العالم الآخر (القبر) أو من سرداب خفي ,ولكنها رسائل تفضح ما يعتلي النفس البشرية من قبح وقبح , من ترهل بالمشاعر والأحاسيس , ويُصر أن يسميها برسائل (لا رواية ولامجموعة قصصية ) هي رسائل أدبية فلسفية وإنسانية ذات بُعد متجذر في أعماق النفس البشرية ,لقد علا صوته ليحذرنا من القابع في أنفسنا أولاً وعاشراً ,ثم من الآخر .
محمد أحمد خوجة