في ذكرى رحيلها : كيف خدمت كوكب الشرق اللغة العربية؟

أم كلثوم كوكب الشرق الذي لا يغيب، سيدة الغناء العربي في عموم الوطن العربي بلا منازع في القرن العشرين، صاحبة الحنجرة الذهبية, والتي ما زال صوتها الأسطوري يشغل الباحثين بما يخفي وراءه من معاني الكلمات الرقيقة,والأشعار الرائعة في أغانيها العاطفية حيث لغة الحب والمحبين . ..شخصية شغلت العالم العربي كله في حياتها أكثر من انشغاله بحكامه.. فهي بفنها وأغانيها تعبر عن مرحلة هامة في تاريخ الثقافة العربية، إننا نتذكر عند سماع أغانيها الوطنية الوحدة العربية التي ضاعت .وكم نشعر أننا في حاجة إليها الآن وفي هذه المرحلة العصيبة بالذات من تاريخ العرب. لقد تحركت أم كلثوم بلغتنا العربية كما يتحرك الأفذاذ والعباقرة من شعراء وأدباء ومطربين، فقد ألبست كلّ كلمة من أغانيها لحنا وذابت وانصهرت في معانيها وأنت تسمعها يسترعي انتباهك ان في صوتها بحة وقوة, وعذوبة، وهي تتنقل بين المفردات والوقفات والسكنات وتحسب كأنها قد عرفت بأن اللحن هو أسهل مسلك للمُفردة إلى ذهن الغريب عن اللغة، من أعجمي أو عربي. ولذا فقد ألبست أحلى الكلام أجمل الأنغام، وطافت به بين أسماع المشارق والمغارب، فكأنها حسبت أن من لم يعرف الكلمات ستجذبه الألحان حتى يدمن التفاصيل ويصبح مشدوهًا بالكلمات يحفظها عن ظهر غيب.
لم تكتف أم كلثوم بمداعبة اللغة كما اعتاد باقي المطربين، بل هزتها بزلازل أخرجت كنوزها من بواطن اللغة . وكانت تثق باللغة كما تثق بنفسها، وتثق باللحن كما تثق بصفاء ذهن سميعتها. لقد أخذت منحوتات لغويّة فائقة الدقة والجمال، بأسلوب المتمكن وجعلتها تنطق! ليطرب معها البسيط والأديب، والفاهم والجاهل، والصغير والكبير. لقد فهمتهم وفهموها …
حتى أنها غنت لعمالقة الشعر العربي كأبي فراس الحمداني وأسمعت روحه للأجيال وسلطت عليه الخلود في شعره الذي قلبته قوالب غنائية فخلدت الحروف معه وأحيت الأبيات وبذا أعادت للغة العربية روحها أمام الجمهور. كانت تختار القصائد وتنقيها، فلا يمر بيت أمامها إلّا وتصدر عليه أحكامًا بالحذف أو التعديل أو المرور، وكلّه موزون، ميزان يصبّ في مصلحة انعاش اللغة، وتسهيل العسير لبناء جسر التواصل بين اللغة القديمة الراكدة والمستمع الجديد. فتراها تصوغ الكلمات، وتعجنها جيداً حتى قبل تلحينها. وتجدها فى مواضع الضعف الذي قد يصيب الطرب عند النطق بهذه الكلمة أو هذا الحرف تهتّم بأبسط التفاصيل في القصيدة وتختار أجوّد أبياتها، حتى تخرج للمستمع ناتجاً مثالياً وبذا فهي تحرص على بناء معرفة لغوية كبيرة لمن يسمعها فقد قرّبت اللغة، وجمّلت جدران القصيدة، ونقشت عليها البِدَع الجمالية الباذخة السخية، وجمّعت حولها آلاف الآلاف من الهائمين، وكسرت حواجز التفاهم بين العوام والأدب، وفتحت لهم أبوابًا عملاقة حجّوا من خلالها أفواجًا إلى أغوار الأدب، تلذذوا به وعاشوا عليه وانشغلوا به في صنع لغة تفيض أدبًا، وتعصف سلاماً، لقد أكّدت ام كلثوم وشرحت وبيّنت كيف يستطيع اللحن أن يخرج من الكلمات معاني لا نهائية.
محمد مخلص حمشو

 

 

المزيد...
آخر الأخبار