العمر الشعري

التجربة الشعرية لدى الشاعر تبدأ متواضعة عادة، ثم تشتد شيئاً فشيئاً إلى أن تبلغ القمة، تحتلها لمدة ثم تبدأ بالانحدار والنضوب، أو المراوحة في المكان ( إلا من رحم ربك ) . والقمة التي أشرت إليها نسبية، تختلف من شاعر إلى آخر، فلكل شاعر قمته التي يتناسب ارتفاعها مع موهبته واستعداده وثقافته والظروف التي أتيحت له … ويدخل ذلك في باب الفروق الفردية بين شاعر وآخر. وعندما أقول الشاعر فإنني أقصد الشاعر الحقيفي بطبيعة الحال وليس الذين يحبون أن يقرنوا أسماءهم الكريمة بهذه الصفة الجليلة ( قبل أن تمتهن ) . والدارس النزيه سيكتشف أن التوغل في العمر قد لا يصاحبه ارتقاء في عوالم الشعر . فالعلاقة بين العمر الزمني والعمر الشعري، إن صحت العبارة، ليست المقصودة بما سبق وذكرته، فقد يشيخ الشاعر ( الفرد والإنسان ) وتبقى شاعريته متقدة ومتوهجة وملتهبة وشابة … ، وقد تشيخ الشاعرية وتهرم وتذبل وصاحبها مازال شاباً فتياً . فالذين يبدؤون مبكرين في ( اقتراف الشعر) قد يصلون إلى قمتهم، أعني قصارى ما يمكنهم الوصول إليه فنياً، مبكرين ، وهو الأغلب الأعم، وقد يستغرق بعضهم في رحلته مدة أطول من غيره .. وطول المدة هنا دليل تطور وتجدد وحيوية فنية يتميز بها الأصلاء من الشعراء عادة، بل إن بعض الشعراء ربما غادروا دنيا الناس وهم مايزالون يغذون السير صعداً غير قانعين بما وصلوا إليه، مع أن ما وصلوا إليه قد تجاوز ما وصل إليه الآخرون، وهذه صفة العباقرة من الشعراء.وللحقيقة أقول : إنني أشفق على هؤلاء الذين وصلوا إلى ( قمتهم )، وقالوا كل ما يمكنهم قوله، واستنفدت مواهبهم أغراضها، لقصور فيها، أو لوهنها، أو لقصر نَفَسِها ( كما يقولون في العبارات النقدية الدبلوماسية )، ومع ذلك لم يتوقفوا عن إنتاج ما يظنون أنه شعر … يحسبون أن نور شهرتهم (الباهر) قد يعشي عيون النقاد والقراء، فلا يرون في نصوصهم الباهتة الاجترار والتكرار العقيم . ولو سكت هؤلاء لكان أكرم وأنبل وأليق … لهم وللشعر .ومن نكد الدهر أن بعض هؤلاء يضيفون إلى عدم الكف عن تعاطي الشعر ذنوباً أخرى ليس أهونها التنظير النقدي، حيث يتخذون من تجربتهم وإبداعاتهم المسطرة التي يقيسون بها إبداعات الآخرين، مانحين من شاؤوا صكوك الشاعرية والعبقرية .. ومانعين من شاؤوا من حق الوجود الشعري، مع أن تجربة أكثرهم ذاتها تفتقد الشرعية الفنية والمعرفية في آنٍ معاً، وبحاجة لمن يعترف بها أصلاً، ولاسيما نصوصهم المتأخرة …. ومحاولاتهم في الانتساب إلى الأنماط الجديدة من القول الشعري لن تغني عنهم من القراء شيئاً، حتى وإن شرّقوا إلى ما وراء الشرق أو غرّبوا إلى ما وراء الغرب …. لأنها ليست بشيء في ميزان الشعر . لايحسبن أحد أنني أقصد شخصاً بعينه ، معاذ الله ، وإلا كان ما أكتبه متهافتاً وأقرب إلى المهاترة، إنني أقصد ظاهرة . ورحم الله العقاد (الشاعر) ومدرسته في النقد .‏

محمد راتب الحلاق

المزيد...
آخر الأخبار