حددت الدراسات النقدية بعدين اثنين لاغُنيةَ عنهما في الكشف عن شعرية نص من النصوص الأدبية، يتصل الأول بالبعد الموضوعي والمحتوى الفكري الذي يمنح النص مسوغ وجوده في سياق حضاري محدد، بينما يتصل الآخر بالمستوى الشكلي الذي يحيل على طريقة بناء النص وشبكة العلاقات التي تنتظم وفقاً لها عناصره وبُناه، وهو ما يمنحه مسوغ وجوده في نسق الأعمال الفنية.
وعلى الرغم من أن أفلاطون أخرج الشاعر من جمهوريته منذ أزيد من عشرين قرناً لأسباب تتعلق بالمحتوى، فإن الإله الداخلي الذي يسكن الشاعر لا يزال يتكلم إلى اليوم متوجساً حقيقته خارج جمهورية أفلاطون، فلئن كانت نظرية المحاكاة أبعدته من الحقيقة درجاتٍ ثلاثاً فإنه قرناً بعد قرن أخذ في إعادة تشييد فردوسه كصرح ضخم غير مرئي من الأعمال الأدبية ذات المنطق الداخلي الذي يعرف في قوانين الأدب، التي لا يفهم من كونها قوانين أنها نهائية وثابتة ولا يجوز عليها التحوير والتعديل، مادام قوام هذا العالم الخيال وهيكله اللغة، وإنه وإن كان هذا الأدب مشيدا بالخيال إذ هو واقعه الوحيد، فإنه في الوقت عينه لم يكن معزولاً عن الواقع الموضوعي بوصفه جزءاً من نسيج من الخطابات الحية والمتحولة لحظة بعد أخرى.
من هنا كان كل عمل أدبي يعيد -واعياً أو غير واعٍ- تعريف حدود مملكة الأدب ويقدم نفسه كاستثناء لا سابق له وفقاً لشعرية منزاحة تنتجها التجربة الجمالية والحضارية، الخاصة والمحتملة لنصوصه. والنص الأدبي بعد هذا يتحدد علمياً بأنه نسق عال من الترميز ينهض من الحيز الضخم الذي تشيده جماليات الفن منذ أن صارت اللغة أحد تجليات الجمال، ومنذ أن غدا الشعر التجلي الأفضل والأنقى للّغة.
من هنا كان الوقوف على شعرية توفيق أحمد في أعماله الشعرية نوعاً من البحث عن المُفارق المحتمل في التقاط الفيوض اللانهائية للحظة الجمالية وتقييد أوابد الفكر وخرائد المعاني وفق أسلوبية خاصة توافرت عليها تجربته الشعرية والشعورية في آن معاً.
كلمات وأشياء:
تنهض شعرية توفيق أحمد على وعي دقيق بطبيعة العالم الشعري الذي ينسجه بالكلمات، وبالأخيلة، فنتعرفه في نسقين من الترميز يمكن تعرّف الأول في اللغة التي تميز نفسها أسلوبياً في نمط خاص من الدوال اللسانية يمكن عزلها تحليلياً في حقل دلالي مشترك يتجاوز أغراض الإبلاغ المعرفي إلى مرامي الفن البعيدة الشأو والغاية، وهو ما يمكن استقصاؤه على امتداد الأعمال الشعرية. ولا سيما أن الشعريات الحديثة قد صححت النظرة التقليدية التي ترى أن بعض الكلمات ذات طبيعة شعرية وأخرى غير شعرية، فذهب كوهين في بنية اللغة الشعرية إلى أن كل الكلمات شعرية بالقوة وبالإمكان محيلاً على مبدأ أصيل رسخته الرومانسية ومن بعدها الرمزية في أن الشاعر ساحر كلمات وأن مايمنح الكلمة أثرها الشعري موقعها ووظيفتها في البنية، غير أن شعرية توفيق أحمد تتوجس الطاقة الشعرية الكامنة في العلامة اللغوية التي يختزن مدلولها بعدا ألسنياً، بمعنى أن الدال وهو الصورة السمعية للعلامة يحيل على مدلول ذي مرجعية لغوية صرف، فتبدو العلامة منعكسة على ذاتها، حين تحيل على ذاتها ويبدو العالم الشعري مؤسساً باللغة وفي اللغة، فعلامات من مثل / الكلمة- الكلام- اللغة- القصيدة- الأبجدية- الحروف- الاسم- الشعر- التثنية- الروي- الكتاب- القواميس- المعاجم/ لاتجد مرجعا لها في العالم الموضوعي إذا ما استثنينا الرسم الكتابي الذي يجسدها في المقروء، فالأصل أن مرجعها هو مفهومها المجرد ذهنياً مما يحدث تطابقا في المثلث الدلالي الذي يعرضه بيرس بين المرجع والمفهوم، ونحن لو وسعنا هذا الحقل الدلالي لوقفنا على علامات من قبيل/ نشيد – الورق- القافية- الدفاتر- الغناء / وإن الحقل ليتسع أكثر ليشمل كل ما يحيل على فعل الكتابة كلقاء بين الوعي والعالم المحيط، ويتسع أكثر ليغدو الشعر ضمير اللغة وروحها الذي لا يتكشف إلا للبصيرة الصافية التي تباشر ما حولها بالوعي الجمالي فتعرف نفسها تأملياً في ما تعي وتتأمل :
«وسافَرَتْ بين القصيدةِ والغمامِ مدينةً
ملكوتُها فِكْرٌ… وفي أسرارِها
مالَمْ يَدُرْ في البالِ قَبْلا
هي في المعرَّةِ شيخُها الأعمى
وتُبْصِرُ باسْمِهِ الأشياءَ
من بابِ البسيطةِ لاحترابِ الطامعينَ
وتدفعُ الغرباءَ عن ينبوعها الغالي
ليبقى في ضميرِ الأرضِ أغلى
هي كلُّ هذي الذكرياتِ
تَوَحَّدَتْ فينا
وسماها جنونُ الشِّعر… إيبلا»
/قصيدة إيبلا ص392/
تلك طاقة شعرية أولية تُجنها العلامة في طبيعتها اللغوية المضاعفة، فهي منزاحة ابتداءً عن نسق الكلمات التي تعد في العرف اللساني بديلا من الأشياء، فإذا استُدعيت إلى الكون الشعري تضاعف أثرها وأبدت نشاطاً خاصاً يميزها بوصفها كوناً مرتداً على ذاته لا يحيل على شيء خارجه مما يجعل حضورها حقلاً لوعي اللغة الشعرية بذاتها، حيث الكلمة تسمي نفسها، والقصيدة تميط الحجاب دون اشتغالاتها الجمالية، والنقش الأبجدي يحضر في رسمه الزخرفي كمبدأ مولد للشعرية من دون تكرار أو تناظر أو تقسيم، إنما هو مركز إشعاع دلالي ولاسيما حين يطوّق كل ما يمت إلى فعل الكتابة بنسب دلالي، حتى إنه لَيمتد ليغدوَ تقابلاً فلسفياً وأنطولوجياً بين الصمت بوصفه عدما والكلام بوصفه فعل حياة وحضور.
إن المفهوم الذي تقترحه شعرية توفيق أحمد يصادر الدال ليبتعث فيه ماكان خامداً خارج العبارة الشعرية، ويحيي فيه ماكان هامداً خارج مملكة الفن، وليوقظ قدرته الذاتية على الإحالة على نفسه، فإذا كان الخيال كما عرفه باشلار فينومينولوجيا الروح فإن الشعر هو فينومينولوجيا اللغة وبعدها الظاهراتي، فيه تتأمل اللغة ذاتها، وتعرّف نفسها. ولعلنا قد نحيل على هذا النمط من الدوال في وسوم القصائد على نحو يدل يقيناً على حضور اللغة كنسق جمالي محتمل لشعرية توفيق أحمد في عنوانات من قبيل/ نشيد لم يكتمل- قنديل الشعر- كتاب الحكمة- نسيت اسمها- من أوراق الغربة- ياشعر- كتبتك- عصفورة الشعر- شاعر ما- كلام- أقاويل- ماذا أسميك…./
إضافة إلى عن فيض العلامات التي تتدفق في مجرى القصيدة فتهبها شعرية مائزة قل أن نقف لها على مثيل خارج العالم الشعري الذي يؤسسه جمالياً الشاعر توفيق أحمد
ففي قصيدته / أريدك خمر المساءات/
لايقنع الشاعر من عالمه بما يتوافر عليه من الأشكال والظواهر وإن كان نسقاً احتمالياً يدرجه في تجربته الجمالية التي التقطت أشياءه بعد أن مستها تلك القوة السحرية فجعلت منها لقىً شعريةً فريدةً، ولاترضى منها بصيرتُه التواقة إلى عوالم أرحب، فتعكف على الدال اللساني تشققه وتملؤه بمفهوم مغاير، وتنبّه فيه شعريةً مبتكرة تضيء على الوعي الذي يفصح عن نفسه وهو يتأمل أداته تأملاً شعرياً، ويغدو الفكر وسيطاً بين الشعر واللغة بعد أن كانت اللغة وسيطا بين الفكر والشعر، ويغدو الدال اللساني غرضاً مقصوداً بذاته مقترباً بذلك من جوهر الجمال الخالص:
لادمعَكِ الهَطِلَ الشريفَ تَحَسَّسُوا
أبداً… ولا لغةَ النداءْ
كم يا جميلةُ ناعماً كان الكلامُ
وكلما جَمَحَتْ خيالاتُ المخادِعِ
كان أكذَبْ
هُزي بجذعِ النخلةِ العجفاءِ
فالثمرُ انتهى….»
/قصيدة أريدك خمر المساءات ص168/
إنها اللغة التي تعرض نفسها للحاسة الجمالية بوصفها بدائل للأشياء فتسخو بنظامها الدلالي كشعرية محتملة لاتمتنع على بصيرة الشعر حين تعكف على كل نسقٍ تعمل فيه ريشة الفن مهما بدا عزيز المطلب، نائي المرام، إذ هي تكاشف الوعي بإعلان الحضور المحايث للتجربة نفسها، في نوع من الارتداد الإحالي على نفسها على مستوى المدلول مما ينتج صعوبة في تجريد المفهوم خارج النص:
« أَرْغَبْ
مازال عندي لهفةٌ حَرّى
لشمسٍ غَيَّرتْ خُطُواتِها عني
ووهمِ قصيدةٍ كانتْ ومازالت
بأدمعِنا معاً
تُروى وتُكتبْ»
إن هذه الفئة من الدوال اللسانية/ القصيدة- تروى- تكتب- الكلام- لغة النداء/ تبدو شعرية بالقدر الذي تعرض فيه نفسها كموضوع تأمل في انعكاس اللغة على نفسها وتناسخها في ذاتها مما يمنحها أثراً مضاعفاً يُدرك إدراكاً مباشراً قبل أن يتدخل التأويل في تسويغ حضورها والبحث عن معناها النهائي، فالحروف هي تلك التي يُشيد بها العالم الشعري، والأبجدية هي تلك التي تمتح منها الشعريةُ فُيوضَها اللانهائية، والقصيدة التي يشار إليها هي نفسها ما نقرأ، والكلام هو ما نردده في القصيدة… تلك إذن إِبداليةٌ تنطوي على قصديةٍ واعيةٍ في إبرازِ ضميرِ القصيدةِ التي تُشير إلى نفسها كما لو كانت تقول: « أنا» … مُبْديةً عن أَثرٍ سحريٍّ يَجعلُ مِنْ مغامرةِ الكتابةِ نوعاً من اللغةِ التي تتكلمُ نفسَها وتُشيرُ إلى نفسِها، لا بطُرُقِ انتظامِ علاماتِها وعلاقاتِها كما تعلّمنا وظائفَ التواصلِ اللساني، وإنما بنوعِ العلامةِ نفسِها والفئةِ التي تندرجُ في نَسَقها، بمعنى أن للعلامةِ طاقةً شعريةً بصرف النظر عن المبدأ الشعري القائم على إسقاط محور الاستبدال على محور التوزيع، إذِ العلامةُ شعريةٌ من خلال الاختيار، في أيِّ توزيعٍ اتَّسَقَتْ، وعلى أيِّ وجهٍ انْتَظَمَتْ. ودرجةُ شعريتِها لا تقاسُ بوظيفتِها وحسب، وإنما بحضورها بصفةٍ أساسية و ضرورية، وتلك أسلوبيةٌ تجعلُ للّغةِ وقْعاً و حضوراً هو في اللّحظة الشعرية أَشْبَهُ ما يكونُ ب»هسهسة اللغة».
مملكةُ الشاعر
في نهاية كتابِهِ «ترحال» صَرَخَ كازانتزاكي:
« ما أعظمَ الفرحَ عندما ينهضُ المرءُ ذاتَ صباح ويهتفُ: كلمات! كلمات! مامن خلاصٍ بغيرها، وأنا لا أتحكم إلا بثمانيةٍ وعشرينَ جندياً صغيراً من الصور، سأحشُدُهم، وسأُقيم جيشاً، وبهم سوف أَقْهَرُ الموت.»
ينطوي تَوجَّهُ الشاعِر إلى العالمِ المحيط به على حُكْم جماليٍّ عريق يندرجُ ضمن تَذوُّقِ الجمال الحرِّ في الطبيعة بحسب تحديد كانط للجمال، وهو أمر يَشترك فيه البشر بصورةٍ عامة، غيرَ أن الشاعرَ وحده مَنْ لا يصدِّقُ خُلُوَّ المنظرِ الطبيعي من دَلالةٍ إنسانية، إيماناً منه بأنَّ خاصيَّة الجمال تجعلُ الأشياءَ موضوعَ تأمل وتصور وتعبير، فلا يكتفي بشعورِ الدهشة والطمأنينة والألفة، ولايكتفي بأن» يستمعَ كثيراً للصوت الساكن الحزين للإنسانية» كما يقول ووردزوورث، إذ يستجلي وعْيَهُ في لقائِهِ الحارِّ بالعالم الخارجي ويسعى إلى تحويلِ هذا اللقاءِ العابر إلى ديمومِةِ مستمرة خالدِةِ في اللغة.
وإذا كانتِ الطبيعةُ في شعر توفيق أحمد تعرض نفسها كمنظومة جمالية موازية لشعرية الدالِّ اللساني كما تَبَيَّنَ آنفاً فإنها تنهضُ كنسق مدرك حسّياً في السمع والبصر – بحسب تحديد توما الأكويني للجمال-مقابل النسق التجريدي للغة
ولعلنا قد نتجاوز التقسيم المدرسي المصطنع للصورة من حيث هي استعارةٌ أو تشبيهٌ إلى نوعٍ من المجاز الكلي الذي تخلقه التصاويرُ والتلاوين فتهب للخيال طلاقةً تتكئُ على ذلك المعنى الروحي المشترك بين الظواهر المنبسطة أمام البصر و المترددة في السمع، وفي تلك الأصداء المتجاوبة في الحس، والبروقِ الخاطفة في الحَدْس والشعور، فتبدو الطبيعةُ أكثرَ من شكل، وتغدو القصيدةُ أعمقَ من إطارٍ لمنظرٍ طبيعي في لحظة شعرية خالبة، وإن تتبع تلك الصور الجزئية في أعمال توفيق أحمد يظهرنا على تضافر الحواس في تركيب الصور الفيزيقية التي تؤول عناصرها إلى عالم المحسوس، ولعل هذا أن يكون أمراً تَسَاهَمَهُ الشعراءُ على امتداد الأعصر، غير أن ما يميز شعرية توفيق أحمد في تصاويره تلك الجدلية التي تبدو معها الصور الحسية مضفورةً بصور مصنوعةٍ صناعةً عقلية خالصة، وعلى نحو ما أشرنا في اختيار طبيعة العلامة اللغوية كانحراف شعري فإن سمة التجريد تبدو علامة فارقة في خلق الصورة العقلية التي يصعب العثور على مرجعها في العالم الموضوعي، فالشعر يستقي صوره وأطيافه وظلاله مما يمتد عيانياً أمام البصر، ومما يتوارى ذهنياً في الميتافيزيقا من المفاهيم والأفكار والمثل، ويغدو النص نسيج ائتلاف بين المحسوس والمدرك، وتبدو القصيدة تجاوباً وتصادياً بين عالمين يحيل عليهما نوعان من العلامات : بدائل الأشياء، وبدائل الأفكار والمفاهيم، وليس أحد هذين العالمين تمثيلاً للآخر، ولا هو صورة زائفة عنه، إنما هو نوع من استجلاء المجهول بالمعلوم واستكناه اللانهائي الممتد إلى غير غاية بالنسبي الممتد تحت الحس الذي يمثل يقين الحواس فيما تتلقاه من نداءات وأصداء في العالم المترامي حولها.
من هنا كان الشعر حكمة الشاعر، وضالته الأبدية، به يوثق شوارد الفكر، وضَوَالَّ الصور، وهواملَ العِبرَ، حتى إذا مستها مخيلته لهج بها لسان القصيد ونضح بها سحرُهُ الحلال:
«طَوَيْتُ على سَفَري وجْهَهَا
خِفْتُ بُعْدَ المسافاتِ
أَمْزِجةَ الريحِ والوقتِ في فَلَواتِ
اغترابي
وقلتُ أتبدو على غَيْبِها مثلما في الحضورِ
سراباً وخارجَ وعيِ الحقيقةْ
وداخلَ عُمْقِ اتساعِ اليبابِ….»
/ قصيدة: حرية ص128/
فالسَّفرُ المطويُّ، وأَمزجةُ الريح والوقت، وفَلَواتُ الاغتراب، والغيبُ والحضورُ، والسرابُ ووعيُ الحقيقة ، واتِّساع اليباب… إنْ هي إلا صورٌ مُؤْتَلِفةٌ من ضوء الأشياء ومن ظلّها، والقصيدةُ ليست محاكاةً لظلال الظلال كما يُفهمُ من نظرية أفلاطون في الكهف، إنه الضوءُ الذي يُشرقُ خلفَ الأشياءِ فيحرِّكُ ظلالَها… إنه كما أسماهُ الشاعر» وعيُ الحقيقة»
وتبدو التجربةُ الشعرية مغامرةً في الميتافيزيقا ونوعا من تمزيق الحجب بالصورة نفسها وبالدال نفسه حيث تبدو تجربة القراءة نوعا من اقتفاء أثر المدلول وصولاً إلى فراديس الشعر التي ابتناها الشاعر خارج أسوار جمهورية أفلاطون، وكهفه، وظلاله، وتبدو الاستعارات في بعض تمثيلاتها عقلية صرفا كريشة من جناح الذل أو كقطرة من ماء الملام بتعبير الشاعر الأول… وتتبدى جدلية النسقين الرمزيين/ الكلمات والأشياء/ على أروعها في نصوص تستجلي معنى الغياب في صورة الموت – حتى في تلك القصائد التي موضوعها الحب- على نحو ما نجد في قصيدة» كتاب الحكمة» حيثُ المخاطَبُ ليسَ أقلَّ حضوراً من المتكلِّم، ومناسبةُ القصيدة- وهي غياب الشاعر رضا رجب- ليست أقلَّ تاريخيةً من تلك العبارات التي نطق بها جلجامش في فَقْدِ صِنْوِهِ أنكيدو:
«هي شمعةٌ أُخرى سَأُهديها إليكْ
هي دمعةٌ خرساءُ غالَبَني الحنينُ بها
ومادَتْ بي جبالُ الوجْدِ
فاتَّكَأَتْ عليكْ
كالنهرِ مشتعلاً بنارِ الماءِ
تمشي في جوارحِكَ القصيدةْ
في كلِّ ما أبقى الغمامُ على معاجِمِنا
تُمَكِّنُكَ البلاغةُ من عبورِ صخورِها
وتَصوغُ من موتِ الترابِ
ضفائرَ العشقِ المشاغِبْ
لكَ وحدَكَ الكلماتُ تفتَحُ بابَها
وتنامُ في أُفُقٍ من النجوى على يِدكَ الكواكِبْ
أَوَ لَسْتَ تَطْبَعُ جوهرَ الرؤيا على ورقٍ
ينامُ على نصاعتِهِ الفراغُ الممتلئْ»
/ قصيدة كتاب الحكمة ص303/
إن التأكيد على الطبيعة الثنائية للصور يمنحنا مفتاح الولوج إلى مملكة الشاعر المؤثلة في عالم المفاهيم والأفكار وإن الوعي الشعري ليجلوها في عالم الظواهر والأشكال ويسميها بالألوان و الأبعاد والكلمات، فإذا هي يقين لا يخالطه شك و حق لا يساوره ريب:
« كَمْ أنتَ تَمنحُ فرصةً أخرى
لمَنْ جَهِلوا البلاغةَ
إذْ تفجِّرُ نبعَ أسئلةٍ
وأخيلةٍ جديدة
هي هذه اللغةُ العنيدةْ
فوق راحتِكَ ارتقى بُنيانُها
ورميتَها بحنوِّكِ الشعريِّ
تبحثُ عن مكانٍ ما لطفلٍ لم يَجِئْ
وشَدَدْتَها من مخزنِ التاريخِ طائعةً
إلى بيتٍ:
أُسميهِ المثاقفةَ… المعاصَرةَ… المدى العربيَّ
خلفَ جدارِ هذا الليل
حيث أصالةٌ لَبِستْ ثيابَ العصرِ
واَّتكأتْ على رمحِ الحروف لكي تُضيئَكَ كاللهبْ
من فضةٍ سَلْسَالُ هذا العمر
من قمحٍ… ومن شَجَنٍ… ومن كلِّ التفاصيل
التي زَخَرَتْ بها لغةُ العرب»
إن مملكة الشاعر ليست تلك الطبيعة المنبسطة أمام البصر، والأدغال الملتفة والجبال الراسية، التي يلوذ بها لواذاً رومانسياً أو رمزياً، فيركّب منها جُذاذات من الصور، وقُصاصات من الأخيلة والألوان، إنها ذلك العالم الغريب الذي يقبع على الحدود القصوى للعالم المحسوس ويخالج ما وراء الحس ويلقي عليه أضواء الوعي الشعري فيكاد زيته يضيء إن مسه لهب الشعر، وغباره المسحور، وما تلك التبادلية بين ضمير الأنا المتكلم وضمير المخاطَب التي تتجاوز الالتفات الذي قعدته البلاغة كانزياح أسلوبي إلا تعريفا للدالّ اللساني في بعده الرؤيوي/ الخيالي الذي يحيل على تجلي الأنا في الآخر / أنت- راحتك- حنوك- شددتها- أسميه/ ويبدو الغيابُ حضوراً له نظامُهُ الخاصُّ المولِّدُ للصور وللدلالات ولكن من بُعدٍ ميتافيزيقي يُنصَّب فيه الوعي الشعري كوعي كلي في عالم المثل:
« يا داميَ القلبِ هل في البالِ أغنيةٌ
لم نَكْتَشِفْها بقاموسِ الحنينِ؟ قُلِ
أنا بصدرِكَ جُرْحٌ.. لستُ أعرفُ كَمْ
أَغُطُّ ريشةَ يأسي فيه بالأملِ
نحنُ اخْتَصَرْنا حكاياتٍ وأزمنةً
وحَسْبُنا أننا سرنا… ولم نَصِلِ
كان الطريقُ ضبابا ًكيف تسألني:
ماذا تَرَكْتَ لأجراسِ الحنينِ ولي؟
وزِّعْ كتابَكَ… يومَ الوجْدُ يُطفْئُنا
سنُشْعِلُ الأرضَ… بالفوضى… وبالغَزَلِ.»
/ قصيدة كتاب الحكمة ص307/
تلك هي مسيرة الشعر التي أنشأ الشاعر يبتني فيها عالمه، بحثاً عن كنه الفن وحقيقته العليا، وتلك هي حكمة الشاعر التي تقدم نفسها كاستثناء بعد أن غمست ريشة الفن في ذلك النهر المتدفق فيما وراء الظواهر المترامية حولها، بحثاً عن شعرية منزاحة في نسق الأعمال الأدبية، شعرية تعرف نفسها لا كمحاكاة للأشكال والألوان، ولكن كمحاكاة لفعل الخلق والتفوق في الوعي الجمالي الذي يعدّل باستمرار حدود الأدب و قيم الجمال بوصفه كيانا من الرؤى والتصورات التي تشكل قوام الجمهورية العالمية للآداب.
الدكتورة ميادة إسبر