(1)
مثل قامات الأشجار كنّا.. ما الذي قصم ظهورنا، ووسم بالدونية حياتنا..؟ كيف فرغت جذوع الأشجار من نسغها حتى صارت هياكل.. مجرد هياكل يسرح الدود فيها ويمرح..؟! انظر بربك يا صديقي! راقب هذه الرؤوس الكثيرة المنفوشة، إلى أي مرعى تسير..؟
وتتدحرج دمعتان عزيزتان، تحرقان بالألم المسار.. يمسحهما بأصابعه الواجفة وهو يهزّ رأسه ليغادر حرم الذكريات، فصحيفة اليوم بانتظاره ليتصفحها على عجل كعادته، ثم يفرشها على أرض غرفته الحاسرة، ويجلس عليها هو وأطباق الفطور معاً.
(ربّاه.. إنها صورة صديقي الشاعر يمان مسعود..!)
ويقهقه محبوراً، وهو يقول بدهشة:
– أهلاً أهلاً يمان الغالي.. أتصدّق أني كنت معك منذ لحظات..؟ نعم.. كنت أتذكر كلماتك وأنت تبوح لي بما يوجعك.. آه يا صديقي آه.. ما أوجع ما ختمت به آخر لقاء بيننا، زفرت بحسرة يوم ذاك وقلت:
– أتدري يا حسام.. لم أعد أطيق النظر إلى السماء..
– ولماذا يا فيلسوف زمانك..؟
– لا أدري.. أظن أنها باتت مهجورة مذ رحلت عنها عيون العشاق..
ضحكت من أظافر قدميّ حتى قمة رأسي، وأنا أسألك:
– ولماذا رحلت أعين العشاق، وإلى أين..؟
– وهل بقي عشاق في هذا الزمان..؟
وهطلت من عينيك دمعتان سريعتان، شربتهما وتابعت نزفك:
– لم يعد في أعمارنا متّسع للحب.. فالكل مشغول حتى النخاع بهذه اللقمة الحقيرة
( بنت الكلب) ذلّتنا، وأكلتنا قبل أن نأكلها..
صدقت يا أخي، والله صدقت.. وأقرّب الصحيفة من شفاهي المرتجفة من أزيز الذكريات، ألثم صورة صديقي بشوق عريق، وأعاهده بأن تكون هذه الجريدة الوحيدة التي لن تتحوّل مفرشاً للطعام.. ثم أقرأ ما كُتب تحت الصورة:
(معرض فنّي للشاعر الفنان يمان مسعود في صالة المعارض بدمشق )
رمى الجريدة أرضاً، وتهالك على أريكة هرمة، والألم يعتصر فؤاده:
(آه يا صديقي.. أتراك حملت نعش قصائدك على كفّك..؟ كيف ماتت..؟ شنقاً، أم رمياً بالرصاص..؟ أم تراها ماتت هي الأخرى جوعاً..؟ لم يكن الشعر عندك ترفاً، كان وجعاً مضيئاً، فهل بعت وجعك..؟ كان جلدك فكيف تنازلت عنه..؟ ما أوجع عريك يا صديقي.. ما أوجعه..!
مسح بكمّه حبيبات العرق عن جبينه، وتابع محاكمة صديقه بصوت كاد يهزّ صورته المعلقة على الجدار، دنا من الصورة، خاطبها بقسوة ومرارة:
(هل تظن أن الرسم عمل إضافيّ تكسب منه لقيمات تسدّ جوعك..؟ كان جوعك أغنيةً، عطراً.. فبكم بعته، وبم قايضته..؟ ثم.. تعال هنا قل لي كيف تجرؤ على احتقار فنّ الرسم بالولوج إلى عالمه بلا عدّة أو سلاح..؟ متى كنت ترسم، والرسم لم يكن يوماً صديقاً لك ولا صاحباً..؟ أظنك لن تذرف الشعر بعد اليوم، ولن تنجح في بديله.. أجل لن تنجح.)
(2)
في صالة المعارض التقيا، صافح حسام صديقه ببرود، لم يهنئه، ولم يبارك له، فكل شيء مُؤجّل كما قال له حتى يشاهد لوحاته.. مرّ عليها واحدة واحدة فما سكن عطشه، ولا بردت دماؤه.. عاود الوقوف أمامها لقراءتها من جديد، ها هو يتأمل اللوحة الأولى التي تحتضن رجلاً في قامته أنفة السنديان.. فيخيل إليه أنه سيُحطم عما قريب حدود لوحة لا تتسع له، ويغادرها إلى صدر المدى.. يقترب حسام من اللوحة حتى كاد يلتحم بها، يدقق النظر في العينين المعلقتين في الأفق، تغازلان نجما قصياً، وفي اللوحة الثانية يظهر الرجل ذاته، لكن قامته انكمشت بشكل ملحوظ، وعنقه قصر وكاد يغوص بين كتفيه، والمسافة بين عينيه والنجم الذي كان يغازله بعدت، وفي اللوحة التي تليها يتمادى الرجل في قصره، وتنبت حدبة في ظهره، وهو يضع يده الكليلة فوق حاجبيه في محاولة لمطاردة نجمه الهارب.. يحبس حسام أنفاسه وهو يتابع رحلة هذا الإنسان عبر لوحات صديقه، فهو ما عاد قادراً على الفكاك من شباكها، والإفلات من غواية سحرها.. يقرأ اللوحة الخامسة بعينيه وقلبه، سقطت يد الرجل عن جبينه، فما عاد بحاجة لها بعدما خلت السماء من نجمه الحبيب، وحدبته اتسعت حتى كادت تملأ ظهره، وفي السادسة يظهر الرجل وقد فارقته نضارة الحياة، ظهره محنيّ ويداه تكبسان معدته بشراسة، فتش حسام عن عينيه فإذا بهما نقطتان شحيحتان في رأس لم يعد يشبه رؤوس البشر، تدبّان بين الخنافس بحثاً عن شيء ما..
لنرَ كيف أصبح حاله في اللوحة السابعة.. قال بفزع، وهو يحدّق في الوجه الذي يكاد يلامس الأرض، وقد تدلى اللسان وسال اللعاب، وتناهى الرأس في صغره، وغابت العينان تماماً.. كما غابت السماء.. لا سماء في لوحته السابعة.. وفيما تبقى من لوحات حافظ الإنسان على نمطه ذاك، توقفت رحلة تطوره القسريّة، غير أنه في كل لوحة يبتكر طريقة يطارد بها مضغة تُمعن في تمنّعها، وهو يدمن اللهاث خلفها.. هي تتمايل، تتراقص، ثم تسقط داخل فم شره شبق، مستعد لها..
يا إلهي..! ما هذه اللوحة..؟ لا أرى شيئاً سوى الضباب.. لا.. لا.. ثمة جثة معلّقة هنا في زاوية اللوحة.. إنها جثته.. أجل هي بعينها.. لكنْ.. ما هذا الشيء الملتصق على عنق الرجل..؟ إنها.. إنها مراقصته، معشوقته الأزلية.. (المضغة).. رباه كيف تحولت (ببيوناً) على رقبته..؟ (ببيوناً) مربوطاً بخيوط لحميّة كتلك التي تُستخدم لخياطة الجروح..
التفت حسام نحو صديقه يمان الذي كان يرافقه خلال رحلته على لوحاته، عانقه بقوة، وقال:
– مبارك يا صديقي.. فقد قال معرضك ما تنوء الكلمات بحمله.. لكنْ ألا ترى معي أن معرضك قد نسف نظرية دارون في أصل الأنواع..؟ فهو يدّعي أن القرد تطور بفعل الحاجة فصار إنساناً.. أمّا معرضك فيقول: إن الإنسان هو الذي تطور و بفعل الحاجة أيضاً.. لـكنه صار..
توفيقة خضور