كنت صغيراً مثلكم، في سن الثامنة أو دونها بقليل، وكنت تلميذاً في مدرسة ابتدائية اسمها: نور الدين الشهيد، وكان يفصل بين بيتي ومدرستي: زقاق متعرج، وسوق مسقوف، ثم ساحة مترامية الأطراف.. وكان عليّ أن أقطع مسافة شاسعة سيراً على الأقدام، ففي أيامنا تلك لم نكن نعرف سيارات مخصصة لنقل التلاميذ!. لذا كنت أستيقظ كل يوم في الصباح الباكر: أغسل وجهي، وأرتدي ثيابي، وأتناول فطوري.. ثم أتأبط محفظتي، وأهرع إلى تلك المدرسة الغالية.
وذات يوم من أيام شباط الباردة.. استيقظت كعادتي: فوجئت بأن ضوء النهار يملأ الغرفة!.. وتلفت حولي فلم أجد أحداً! أخي الكبير (سهل) لم يكن يراجع دروسه كعادته في ذلك الوقت، أختي الصغرى (هنا) لم تكن أمام المرآة تسرّح شعرها.. كما تفعل كل يوم، وبقية أخوتي وأخواتي لم أسمع لهم حسّاً ولا حركة، ولم أعرف في أي مكان هم؟!!.
ـ أين ذهبوا جميعاً؟!..
تساءلت بيني وبين نفسي، ثم تسللت من فراشي، وقد انتابني شيء من القلق… تناهى إليّ أصوات قادمة من غرفة مجاورة، سرت بخفة حتى وصلت إلى بابها، فتحته قليلاً.. فوجدت الجميع متحلقين حوال (المذياع)، وقد علا البشر وجوههم، وارتسمت البسمة على شفاههم.. وكان صوت المذيع يطلّ بين حين وآخر، يهنئ المستمعين، ويزفّ إليهم بشائر لم أدرك ماهي!.. وقفتُ دقائق أنظر من شق الباب، دون أن ينتبه أحد إلى وجودي.. وعندما فتحته على مصراعيه، نظروا إليّ باستغراب، ثم صاحوا بصوت واحد:
ـ صحّ النوم يا (موفق) .. تعال.
قلت وأنا أفرك عيني:
ـ لماذا لم توقظوني؟.. ألا ترون أن موعد المدرسة قد فاتني؟!
قالوا: لقد تركناك نائماً.. فاليوم عطلة.
توقفت عن فرك عيني، قلت دهشاً:
ـ عطلة!! وما المناسبة؟!..
قال أخي (وليد) وهو يضمني إليه:
ـ اليوم عيد، والمدارس تغلق أبوابها في العيد.. أليس كذلك؟..
سألته والدهشة مازالت تتملكني:
ـ وأي عيد هذا؟!..
أجاب: وهو يضع في كفيّ قطعة نقدية كبيرة:
ـ إنه عيد (الوحدة) ياموفق، أتريد (عيديتك) أم أسترجعها؟! تلمست النقود وأنا غير مصدق، أطبقت عليها بكفي الصغيرة، وأنا أنظر إليه واجماً وكأنني أقول: أي عيد، وأية وحدة؟!!..
أردف أخي: اليوم أصبحنا و(مصر) دولة واحدة.. أفلا يستحق هذا اليوم أن يكون عيداً؟!.. لم أفهم معنى هذا الكلام، ولكنني تذكرت ـ وقتئذ ـ حكاية قرأتها في كتاب قراءتنا: الشيخ الذي جمع أولاده حوله، وأمرهم أن يكسروا حزمة من العصي.. فلم يتمكنوا!.. وعندما أعطاهم كل واحدة على حدة، كسروها بسهولة.. فقال لهم:
ـ الوحدة قوة، والتفرقة ضعف!!..
***
أواه.. ماأحلى اجتماعنا ذلك اليوم!..
ماأشهى فطورنا الذي بسط أمامنا!!.. مع ذلك، تناولته على عجل.. وهرعت إلى الشارع القريب، وقد جذبتني الزغاريد والأهازيج والموسيقا العسكرية.. حلقات للدبكة، ألعابٌ للسيف، أعلامٌ ترفرف، أقواسٌ تقام، حلوى توزع، رصاصٌ يلعلع، حناجر تردد:
ـ شعب واحد لاشعبان، علمٌ واحد لا علمان.. كان الجميع يعيشون عرساً حقيقياً، وكانوا مندفعين من غير إجبار، وقد امتلأت نفوسهم بآمال عظيمة!.. يومئذ استغربت هذا الاندفاع، ودهشت لهذه الحماسة.. ولكن ـ مع مرور الأيام ـ أدركت سرّ فرحتهم وبهجتهم، وعرفت قيمة عيدهم واحتفالهم.. وشيئاً فشيئاً أصبحت أحلامهم أحلامي، وآمالهم آمالي.. فما أرقها وأعذبها وقد ملأت كياني!!.
لقد مرّ على ذلك اليوم ثمانية وثلاثون عاماً، ومازالت صوره ماثلة في خيالي، لاأستطيع لها دفعاً!. . أذكرها وقلبي يكاد يتفطر، لأن هذه الوحدة لم تبق، ولأن وحدة مثلها لم تأت بعد!!..
د. موفق أبو طوق