الباحث محمد أحمد عيد في حوار اجتماعي اقتصادي مع صحيفة الفداء: المعرفة خبز المستقبل…

عمر فيروس كورونا 19 أقصر من عمر تداعياته… وليس باللقاح وحده نحد من تأثيره
علينا حماية وعينا ووعي شركائنا في المواطنة كما نحمي حدودنا…
مدعوون لتنمية الحس النقدي لوعي الإنسان وحس المسؤولية وإنشاء فضاء افتراضي نقي
الخوف صناعة والجوع صناعة…
ثقافة الاستهلاك تنتج أفواجاً من العاطلين أو العاملين
وتحذير للشركات عالمياً: النزيف النقدي سيكون شديداً والاحتياطيات منخفضة والوقت قصير والخيارات محدودة

■ مع بداية انتشار فيروس كورونا في أرجاء العالم تصدر وعي الإنسان قائمة خطوات الحد من تداعياته الاجتماعية والاقتصادية، وكان هذا العنوان حافزاً لنا لإجراء حوارنا مع الباحث محمد أحمد عيد خبير العلاقات الإنسانية والتنمية المستقبلية المشغول في كيفية بناء الإنسان، وتهذيب سلوكه وإنماء قيمه والارتقاء باقتصاده الوطني، وكان وعي الإنسان حاضراً في كتاباته وممارساته، وسبباً في إقامة محاضراته وندواته خلال عقدين من الزمن… كما كان سباقاً في التحذير والإشارة إلى تداعيات انتشار هذا الفيروس عالمياً… ولعل حدوث الأزمة المالية العالمية عام 2008 أيضاً وما آل إليه الاقتصاد العالمي اليوم إحدى الأمثلة الشاهدة على عمق قراءاته واستشرافه للمستقبل ونفاذ بصيرته…

– لماذا يحضر الوعي في كل إجراء يهدف للتصدي للمشكلات والتحديات التي تستهدف الإنسان، ومنها جائحة كورونا العالمية، وأنت القائل بأن كورونا يمثل اختباراً حقيقياً لإنسانيتنا وتحدٍّ قاسٍ لمدى وعينا؟
– العقد الأخير والعام الفائت منه 2019 تحديداً هو الأكثر سخونة في التاريخ، وخطر الأمراض المعدية في تزايد مستمر لأسباب أبرزها التدمير البشري للعالم الطبيعي… ولعل من أخطر ما تواجهه الذات الإنسانية اليوم هو اكتشافها أسباب تدمير الحياة على هذه الأرض قبل بلوغها النضج العقلي، فهناك تزايد لا نهائي للمعرفة أيضاً يقابله سوء استخدام فظيع لها، وسوء تطبيق للبحث العلمي والتكنولوجيا وبوجه لاإنساني، وكذلك توسع غير مشروع بالتحكم في السلوك، وصناعة الخوف، والتلاعب بالعقول، وهندسة الشخصية وسلبها إرادتها واستغلالها لإنتاج بشر متحللين من القيم، في حين أنه ينبغي أن تكون القيم الأخلاقية جوهر أي علم ومبتغاه، ليكون وسيلة لتقارب الشعوب بدل تباعدها… وأياً كانت أسباب ظهور فيروس كورونا فإني أرى أن عمره سيكون أقصر من عمر تداعيات انتشاره، وأن عالم ما قبل كورونا يختلف عما بعده، وأن طرق عيش البشر وقيمهم وحاجاتهم وأنماط تفكيرهم وسلوكهم تتغير… ونحن لسنا بمعزل عن هذا العالم المتغير والمأزوم بقيمه قبل أزمة كورونا العالمية، ونعيش في أكثر مناطق العالم حساسية تجاه السياسات الدولية وجذباً لأطماعها واهتماماتها وتدخلاتها ومساعيها لتفكيك بنى حضارتها، لذا علينا أن نمتلك وعياً استثنائياً في هذه المرحلة، وحماية وعينا ووعي شركائنا في المواطنة كما نحمي حدودنا…
– كيف تؤثر الأخبار والمعلومات المغلوطة أو المضللة حول جائحة كورونا وتداعياتها في بث الخوف واليأس وما خطورة ذلك على المتلقي؟
– تسهم الأخبار المتتابعة عن انتشار جائحة كورونا وتداعياتها على ظروف الحياة المعيشية للإنسان في ضخ المخاوف الواقعية الصحية الطبيعية في المجتمعات، ويطور الوعي العادي للإنسان وجهاز المناعة السلوكي عدة وسائل لاتقاء شرها والسيطرة على الخطر، ومع تزايد الإقبال والتعرض لوسائل الاتصال، وتناقص القدرة على تصفيتها وانتقاء الصالح منها، خاصة في ظل تغير تضاريس الخارطة الإعلامية وعولمة رسائلها، نلاحظ أن هذا الكم الهائل من الرسائل الإعلامية والمعلومات حول فيروس كورونا وتداعيات انتشاره، منها ما يسد عطش المتلقي لمعرفة ماذا يحدث، ومنها أيضاً ما يسعى لنشر ثقافة الخوف وضخ أشكاله في الوعي الجماهيري بقوة لا يمكن تصورها، كالإشاعات التي تخلق أساساً لتحويل تلك المخاوف الواقعية وردود الفعل والضغوط النفسية الطبيعية إلى رعب كبير وخوف مبالغ فيه تجعله عرضة لأساليب جديدة للتلاعب بالوعي الجماهيري وبسلوكه، خدمة لأهداف ومصالح من يقف وراءها، وهي بذلك تقوم بدور حصان طروادة لاختراق الإنسان وتهييج خوفه وزرع الهلع وإدخال اليأس والتشاؤم في نفسه، وتأتي رسائل ومعلومات أخرى تهيئ المتلقي لإعطاء رد فعل مخطط ومحسوب له وتضليله وشل قدرته على التمييز بين صحة المعلومة من عدمها، محاولة إقناعه مثلاً بأن هناك قوة غامضة كبيرة لا يمكن مواجهتها تتحكم في العالم، لفرض حالة من السيطرة النفسية عليه وإضعاف روحه المعنوية وقدرته على الفهم واتخاذ قراراته، ولتصيب إرادة المقاومة لديه بالشلل، قبل إصابته بالفيروس، فيهزم الإنسان في عقله وتسلب إرادته، ويستولي عليه خوف وجودي يتعمق ليصبح جزءاً من ثقافته، وبالتالي تخلق تلك الرسائل واقعاً افتراضياً معيناً تقنع المتلقي بأنه واقع حقيقي، وبما أن الواقع هو ما يتصور الناس أنه حقيقي، فإدراكهم للواقع على نحو ما،هذا الواقع ما أدركوه… لذا فإن لوباء التضليل والأخبار الزائفة تأثير أكبر وأخطر من تأثير فيروس كورونا نفسه، واستمرار تعرض الإنسان لمعلومات مغلوطة أو مضللة من مصادر غير موثوقة يؤثر على صحته العقلية، ويزداد القلق سوءاً ويؤدي إلى تغييرات اجتماعية ونفسية أعمق لديه، ومن هنا تزداد أهمية الوعي الإنساني لتجاوز تلك الصعوبات، وإذا كانت التكاليف الاقتصادية عالمياً لجائحة كورونا باهظة الأثمان، فإن العواقب على نفسية الإنسان واجتماعيته في كل مكان لها تكاليفها أيضاً…
– أي وعي هو المطلوب لتجاوز التحديات المستقبلية، وما السبيل للحد من مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي عليه؟
– الوعي الذي نريده هو وعي وطني إنساني شامل، بنّاء ومسؤول، يدرك أن التفكير بغيره والعمل المباشر لخدمته هو تفكير بالذات أيضاً وعمل غير مباشر لخدمتها… هو وعي مطلوب من الجميع لأجل الجميع، وبالتالي فأنت تشعر وتفكر وتتعاطف وتهتم وتدافع عن غيرك، وتعمل من أجله لأجلك أيضاً… ونحن مدعوون إلى تفكير استراتيجي بعيد المدى احترازي متكامل، وإلى تنمية الحس النقدي لوعي الإنسان وحس المسؤولية، أيضاً لتسهيل قدرته على التمييز بين ما فيه ارتقاؤه أو انهياره، وإلى الإسراع في توحيد الجهود للبدء في إنشاء فضاء افتراضي نقيّ يرتكز على مبادئ ومنظومة قيمية إيجابية تثبّت قيم المواطنة الواقعية، وتحمي شبابنا من الانحراف نحو هاوية التزمت والانغلاق أو الانفتاح غير المدروس… فنتائج الأعمال مرهونة في التأثير الفكري على المجتمعات، وإن كان تأثير الوباء على البلدان منخفضة ومرتفعة الدخل، وعلى جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والإنتاجية في العالم يشبه حرباً عالمية لا دخان فيها، إلا أننا بوعينا وإنسانيتنا وإرادتنا العاقلة يمكننا في النهاية التعامل مع جميع المشاعر والتداعيات التي نمر بها طيلة هذه الفترة ومواجهتها.
– تركز بعض وسائل الإعلام على أن العالم لن يرتاح قبل إنتاج اللقاح ضد فيروس كورونا للحد من تداعياته، ما رأيك بذلك؟
– في حين تتجه الأنظار ويتم التركيز على متى ومن سينتج اللقاح، أرى أنه ليس باللقاح وحده نحد من تأثير الفيروس وتداعياته، وإنما معه أيضاً منظومة القيم السائدة في المجتمع، لأن الصحة النفسية وعبرها الجسدية مرهونة بتلك القيم في النهاية وخاصة قيم المواطنة… فعندما تمتلك الدول بنية تحتية قوية في القطاع العام يساندها إبداع ومسؤولية وتعاون من القطاع الخاص ويدعمها قيم المجتمع والمواطنة تستطيع تلك الدول أن تتجاوز الأوبئة وتداعياتها… وإن لم يتوفر لديها تلك البنية، ولم يكن لديها، حسب ظروفها، القدرة على إنتاج لقاح أو إيجاد حلول علمية للفيروس، يبقى للمواطنة واليقظة الأخلاقية ولإنماء قيم معينة دورها الأكبر في محاربة الوباء والحد من تداعياته، فحتى عندما يخسر الإنسان كل شيء تبقى قيمه معه التي يمكن أن تساعده على النهوض من جديد، وهي السبيل الأول لبناء الإنسان ومستقبله…
– الاقتصاد العالمي هو أحد محاور اهتماماتك ودراساتك وسلسلة محاضراتك منذ سنوات، ومع بداية انتشار فيروس كورونا أشرت أيضاً إلى تداعيات هائلة على الاقتصاد العالمي، ودعوت مجتمع الأعمال إلى الاستجابة للتحول في ثقافة الشركة وتشكيل طريقة جديدة للعمل… ما هي أبرز المشكلات الحالية والمستقبلية التي تواجهها الشركات؟
– مع تفاقم التأثيرات الاقتصادية لفيروس كورونا- 19 وتداعياته على الصعيد العالمي تحتاج الشركات إلى تعزيز أعمالها والحفاظ على استمراريتها، والاستجابة بسرعة للأزمات التي تنتظرها، لمواجهة العديد من التحديات المالية والمخاطر التشغيلية، لذا من الضروري بناء هياكل تشغيل جديدة بسرعة ومرونة والانتقال إلى طرق جديدة للعمل، إضافة إلى تحديات أخرى تتعلق بصنع القرار والإنتاجية والتغيرات المفاجئة في عبء العمل، وتغير سلوك المستهلكين وأنماط طلبهم، وبالتالي يتعين على الشركات التكيف باستمرار مع ظروف السوق الجديدة وغير المستقرة، وضرورة توفير السلع والخدمات على الفور وبشكل آمن وموثوق، أيضاً هناك مخاوف من انكماش بعض الصناعات، وكذلك استنفاد رأس المال في صناعات أخرى بسبب الصعوبات الطويلة، أو اضطرار بعض الشركات إلى تغيير أعمالها لاحقاً نتيجة تغير الهيكل الصناعي، أي أن الشركات في أغلب دول العالم ستعاني من أزمات متعددة متصلة بأعمالها، منها النقدية والتحول السوقي المفاجئ، والعلاقات الصناعية، والأحداث الدولية السلبية وغيرها… ولكل منها أعراضها وعلاجها الخاص بها، وأعتقد أن وجود إدارة مبكرة وقوية لتلك الأزمات ستحد من آثارها، لذا فإن كل ذلك، وغيره أكثر، يجعلني أدعو إلى اليقظة ورصد التغيرات العالمية وتوخي الحذر، ويتعين على الشركات في كل مكان من هذا العالم، إدراك أن ثقافتها المؤسسية وأساليبها المستقرة في العمل لم تعد تتناسب مع عصر ما بعد كورونا، وأن الأحداث العالمية ستغير قواعد الصراع الاقتصادي… والنزيف النقدي سيكون شديداً والاحتياطيات منخفضة والوقت قصير والخيارات محدودة… وحتى الشركات العملاقة التي لا تستطيع مواجهة البيئة الجديدة لن يبق منها إلا أسماؤها المنشورة في قصص التاريخ الاقتصادي القديم…
– في ضوء هذه التحديات التي تواجهها الشركات في مختلف دول العالم، أي تأثير للقيم التي تحدثت عنها قبل قليل على الصناعات الوطنية للدول مثلاً، وما تعانيه في ظل جائحة كورونا؟
– المشكلة تكمن في قيم المجتمعات التي لا ترى في الفكر قيمة، وتسعى للمال والمنصب أكثر مما تسعى للمعرفة… ويمكننا ملاحظة أن النزعة الاستهلاكية وثقافة الاستهلاك مثلاً، تنتج أفواجاً من العاطلين عن العمل في مجتمع ما، وأفواجاً من العاملين في مجتمعات أخرى، فعندما يسعى الفرد لتحقيق ذاته وتفوقه على الآخر عبر الاستهلاك، والتنافس فيه وهدر ماله وطاقته لأجله، وخاصة لسلع ومنتجات الشركات الأجنبية غير الوطنية، فهذا يعني إنماء لنزعة الاستهلاك، وما يتبعها من تبديد لثروته الفردية والوطنية، بدلاً من توظيف طاقته لإنتاج حاجاته المادية والمعنوية، عبر قيم الإبداع والإنتاج والابتكار والاختراع… وعندما تكون قيم ممارس المهنة سلبية أيضاً ستنعكس تلك السلبية على تعامله وعلاقاته مع الآخرين، فلا يتقن العامل عمله، ويغش التاجر زبائنه… وهذا سبب من مجموعة أسباب أخرى لإضعاف نمو الصناعة الوطنية للدول، وتقوية الشركات الأجنبية الكبرى التي تغذي بدورها تلك الأسباب، وتخطط وتستخدم نفوذها وعلاقاتها الدولية، لحرمان المجتمعات المستهدفة من تحقيق التنمية ومعرفة استثمار ثرواتها وبناء مصانعها وإنتاج سلعها لتبقى سوقاً لها… وهي تقود بشكل أو بآخر الاقتصاد العالمي الذي يعرف كيف يختار ضحاياه من الفقراء والطبقة الوسطى بعناية، والظرف العالمي والمحلي للدول، لذا تجد أغلب المجتمعات يسودها تدهور اقتصادي وتغرق في البطالة والتضخم، والتدمير البيئي والتفاوت الاجتماعي والانحطاط الثقافي…
– الباحث محمد أحمد عيد شكراً جزيلاً على معلوماتك القيمة… كلمة أخيرة عن المستقبل محلياً وعالمياً؟
– المعرفة خبز المستقبل، وعلينا معرفة كيف نملأ عقولنا قبل أن نملأ جيوبنا، لأن الخوف صناعة والجوع صناعة… وتتطلب هذه المرحلة عقلانية استثنائية ووعياً أممياً… محلياً: قوة العملة الوطنية للدول ومستقبلها يعتمد على دعمها بزراعة وصناعة وخطط اقتصادية قوية، وعلى مواطنة المواطنين وتعاونهم وثقتهم بها… عالمياً: إن أردت نحت تمثال يجسد المستقبل، فلا شك عندي بأن قاعدته هي آسيا.

أجرى الحوار عهد رستم

المزيد...
آخر الأخبار